من وسط مدينة سالزبورغ، وعبر رحلة قصيرة ولكنها رائعة بالدراجة مع جبال الألب الشرقية تشكل الخلفية الخلابة المذهلة، إلى قصر «شلوس ليوبولدسكرون» من طراز روكوكو يعود إلى القرن الثامن عشر. وبرغم أنه قد لا يلاحظه الكثيرون على الطريق، فإن منظره من على ضفاف البحيرة رائع للغاية مع المروج المشذبة، والسياجات النباتية، والأشجار الفارعة.
كما اعتبر القصر أيضاً موئلاً لأشهر لحظات التاريخ في المنطقة. وكان مهرجان سالزبورغ قد بدأ تنظيمه في هذا المكان قبل نحو 100 عام. وخلال الحرب العالمية الثانية، سيطر النازيون على القصر واتخذوه مقراً صيفياً لهم.
جرى هنا تصوير مشهد من فيلم «صوت الموسيقى» لعام 1964. في مبنى ميريهوف المجاور، في حين كانت الغرفة الفينيسية المزخرفة داخل القصر المنيف قد أعيد بناؤها بكل دقة وحرفية في استديو عازل للصوت في لندن كي تبدو تماماً كمثل قاعة الرقص في الفيلم. وفي عام 2014، كان القصر موضعاً لعرض أزياء (ميتر دارت) لدار شانيل في (كانون الأول) لعام 2014، وكذلك حفل عيد ميلاد ميليندا غيتس الخمسين.
لكن ربما أن أهم وظائف القصر قاطبة هو اعتباره موضعاً لـ«ندوة سالزبورغ العالمية»، وهي عبارة عن منظمة غير هادفة للربح تستضيف مختلف البرامج حول موضوعات متنوعة من التغيرات المناخية والرعاية الصحية إلى الدور الذي يمكن للفنون أن تلعبه في تطوير وتنمية المجتمع.
وخلال الشهر الجاري، تعقد الندوة برنامجاً يمتد لأسبوعين ونصف تحت عنوان «عناء الإنكار: تمزيق المجتمعات وتدهور الثقة»، حيث يعكف أكثر من 75 صحافياً وخبيراً إعلامياً، من خلال ورش العمل والمحاضرات المختلفة، على دراسة دور وسائل الإعلام في العالم حيث يعتقد الكثيرون أن الحقيقة أمر ذاتي.
ومن تأسيسها في عام 1947 على أيدي حفنة من طلاب ومعلمي جامعة هارفارد تحت فرضية «خطة مارشال العقلية»، حضر الكثير من المتنورين ورش العمل والمحاضرات بالبرنامج، وناقشوا بعضاً من أصعب الأسئلة ذات الانتشار الواسع في المجتمعات. وكان من المشاركين في الماضي كوفي أنان الأمين العام الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة، وهيلاري كلينتون، والقاضية روث بادر غينسبورغ، وكريستاليا جورجيفا المديرة التنفيذية للبنك الدولي.
كما يقوم القصر أيضاً مقام الفندق الفخم الراقي تحت رعاية وإدارة الندوة. وبرغم أن الملكية العقارية خاصة هناك، فإن القصر مفتوح للجمهور بضع مرات في العام، وهو موقع مسرح سالزبورغ الوطني حيث تعرض مسرحيات شكسبير في الهواء الطلق في كل صيف.
ويمكن للضيوف البقاء إما في الغرف المعاد تجديدها حديثاً في شلوس أو في مبنى ميريهوف المجاور. كما يمكنهم رؤية تماثيل الخيول التي مر عليها أطفال فون تراب في طريقهم لتحية والدهم في فيلم «صوت الموسيقى».
يقول ستيفن سالير، رئيس الندوة ومديرها التنفيذي: «يعتبرنا البعض جمعية سرية بدرجة من الدرجات، في حين يرانا الآخرون من ذوي الشهرة الواسعة. ونحن نحاول تلمس سبيلنا بين المحافظة على خصوصية هذا المكان، والحفاظ على أقصى قدر ممكن من الخصوصية للمحادثات التي نجريها، ومن ناحية أخرى، فإننا نعتبر أنفسنا مؤسسة عامة غير هادفة للربح، وبذلك فإننا نرحب بالناس كافة من مختلف الطبقات».
بدأ البناء على الممتلكات العقارية الخاصة بأسرة ليوبولد أنطون فرايهر فون فيرميان، كبير أمراء سالزبورغ، في عام 1736. وبعد وفاته، انتقل الكونت لاكتانز – والذي كان واحداً من أبرز رعاة ليوبولد موتسارت ونجله فولفغانغ – للعيش هناك. وخلال القرن التاسع عشر، كان المنزل من ممتلكات الملك لودفيغ الثاني من بافاريا، ثم من أكبر المصرفيين في مدينة سالزبورغ، ثم لاحقاً من قبل نادلين حاولا إدارة القصر كفندق.
وبحلول الوقت الذي تولى فيه ماكس راينهارت، المخرج السينمائي والمسرحي من بادن، قصر شلوس في عام 1918، كان في حالة يرثى لها. وأمضى العشرين عاماً التالية في ترميم وتجديد كل شيء من الغرفة الفينيسية إلى المكتبة الرائعة وحتى قاعة الرخام.
وكان راينهارت هو الذي وضع قصر شلوس على خارطة المسارح الراقية، وأصبح المكان موئلاً للكتاب، والملحنين، والممثلين، والمصممين من أوروبا وخارجها حيث يلتقون هناك لتبادل الأفكار والخبرات. وكان قصر شلوس هو محل ميلاد فكرة إنشاء مهرجان الموسيقى على أيدي راينهارت والمؤلف الموسيقي ريتشارد شتراوس والشاعر هوغو فون هوفمانشتال، وكانوا يأملون جميعاً في أن ينجح المهرجان في جذب الناس من أرجاء أوروبا كافة، التي كانت في حالة الحرب. (فر راينهارت، الذي كان يهودي الديانة، إلى الولايات المتحدة بعد ذلك إثر ضم القوات النازية النمسا إلى ألمانيا في عام 1938).
تقول كلير شاين، نائبة رئيس الندوة ومسؤولة البرنامج: «عندما أفكر في المؤسسة، أفكر في دورات السلطة، والاضطهاد، والتجديد. لذا، وبعد خراب قصر شلوس في العصر الفيكتوري، كانت جهود ماكس عبارة عن أعمال تجديد وترميم بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى. ثم جاءت نفس دورة الاضطهاد مجدداً مع النازيين واحتلالهم للقصر. كما أن قرار تأسيس الندوة هو عمل من أعمال التجديد، والشجاعة، والمخاطرة».
على مر السنين، تطورت ندوة سالزبورغ العالمية (واسمها الأصلي: ندوة سالزبورغ في الدراسات الأميركية) من مجرد ورشة عمل إلى مشاريع متعددة المكونات عبر العديد من السنوات. وقالت شاين: «بالنظر إلى العالم وتعقيداته المتزايدة، وتقلباته، وعدم المساواة بين أرجائه، تريد أن تتمكن من الولوج إلى قلب هذا التعقيد. إننا نعمل في الندوة بأسلوب متعدد التخصصات وبين الأقاليم المشتركة، ومن خلال التزامنا بأننا سوف نحقق قصب السبق في هذا المضمار عبر السنوات الخمس أو العشر المقبلة بشأن هذا المجال من مجالات التحول المهمة. وهذا مما يمنحنا المرونة المطلوبة لجلب مختلف الشخصيات من مختلف المؤسسات والشركاء سوياً على أساس عضوي ومتطور يتعلق بتعزيز الطريقة التي نفكر بها والأثر الذي نريد تحقيقه».
بعد كل ندوة، يعد المشاركون (الذين يصبحون زملاء) تقريرهم. وتمكن الزملاء من العمل على كل شيء من إنشاء مشروع التعليم في عموم أفريقيا بشأن مكافحة التطرف، إلى تدريس التعايش السلمي وبناء السلام من خلال الفنون. وكان أرشيف المؤسسة قد انتقل إلى هارفارد قبل عامين.
يقول فلوين بريم، المدير التنفيذي لمنظمة الفنون الكمبودية الحية، وهي المنظمة الثقافية التي تتخذ من العاصمة بنوم بنه مقراً لها: «إن الصبغة التحولية للندوة كانت تتعلق بإمضاء الوقت في التعرف على الشخصيات المحترفة الأخرى في مجال الفنون والثقافة من كافة أنحاء العالم، والاجتماع سوياً للتدارس والتفكير وتبادل الآراء. كان هناك الكثير من المحادثات بين الحضور، فلم يكن مؤتمراً من المؤتمرات التقليدية، حيث تذهب لتجلس وتستمع وحسب، ولكن لا بد من المشاركة والتفاعل بطريقة بناءة وذات مغزى معتبر».