تروي كتب التاريخ أنه عندما حاصر السلطان العثماني محمد الفاتح مدينة القسطنطينية قبل أن ينجح في فتحها ودخولها في 29 أيار عام 1453، كان رجال السلطة والدين فيها يتجادلون في ما بينهم، برغم الخطر المحدق بهم وبالمدينة، حول جنس الملائكة أهو ذكر أم انثى، وهو جدل عبثي لم يصل إلى أي نتيجة، سوى أنه كان أحد أبرز الأسباب في سقوط المدينة، تمهيداً لاحقاً لسقوط الإمبراطورية البيزنطية واختفائها عن الخارطة.
يكاد يشبه في جوانب كثيرة ما حصل في عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية ما يحصل اليوم في لبنان، مع الأخذ بعين الإعتبار كل الفوارق، إذ في حين أن البلد يشهد منذ قرابة 100 يوم إنتفاضة شعبية عارمة في وجه فساد السلطة، وحراكاً وضع على رأس مطالبه تغيير هذه السلطة التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه حالياً، وجعلته يقف على حافة الهاوية، ما يزال أهل السلطة يتعاطون مع هذه الأزمة كما فعل أهل السلطة في القسطنطينية قبل 567 سنة، مختلفين في ما بينهم على نحو بالغ الشدّة حول جنس الحكومة المنتظرة وحصّة كل منهم فيها، وما إذا كانت حصة هذا الطرف أقل أو أكبر من حصّة الطرف الآخر، في حين أن البلد ككل يكاد يضيع من بين أيدي الجميع.
ما حصل أول من أمس السبت وأمس الأحد، كان كافياً كي يتعظ أهل السلطة ويراجعوا مواقفهم وأداءهم إزاء ما تشهده عملية تأليف الحكومة المقبلة، بعد مشاهد الإحتجاج الكبيرة التي شهدتها مدينة بيروت، والعنف المفرط التي استخدم فيها من قبل القوى الأمنية بوجه المحتجين، وأن يدركوا أن معالجة أزمة تشكيل الحكومة لم يعد ممكناً أن يتم وكأن البلد لا يحصل فيه أي شيء، وأن التنازع على الحصص سيؤدي في النهاية إلى ضياع الحكومة والبلد معاً.
يوم أمس كان دليلاً حسياً ومادياً إضافياً على المقاربة الضيقة لأهل السلطة لأزمة تأليف الحكومة، التي ما تزال تدور في حلقة مفرغة منذ تكليف حسان دياب تأليف الحكومة في 19 كانون الأول الماضي، وأنهم يعيشون خارج الواقع. أجواء إيجابية جرت إشاعتها قبل موعد دياب مع رئيس الجمهورية ميشال عون الخامسة من بعد عصر أمس، وصلت إلى حدّ تأكيد البعض أن دياب يحمل معه تشكليته الحكومية، وأنه سيعلن عنها وتصدر مراسيمها رسمياً بعد اللقاء.
لكن قبل أن ينتهي اللقاء كانت التسريبات تشير إلى أن الأزمة ما تزال تراوح مكانها، وأن بعض أهل السلطة ما يزالون متعنتين إزاء مطالبهم، ويرفضون التنازل عن أي حصّة لهم في الحكومة العتيدة، والتي يعتبرونها حقاً مكتسباً لهم، يحكمهم جشع غير مسبوق وتشبث بالسلطة وسعي لتقليص حصص الآخرين ومنع مشاركتهم في الحكومة بأي ثمن، في محاولة منهم لـ”إلغاء” غيرهم، ولو أدى ذلك إلى حروب أهلية داخلية يعرفها اللبنانيون جيداً.
خلال الأيام القليلة الماضية أكد سياسيون محسوبون على أهل السلطة أنه إذا لم تنجح المساعي في تشكيل الحكومة يوم الأحد (أمس)، فإن تأليفها لاحقاً سيصبح صعباً جداً. إنتهى يوم أمس ولم تبصر الحكومة النور. هل هناك من سيبقى يتحدث عن أن الحكومة ستبصر النور خلال الساعات أو الأيام القليلة المقبلة، وهل بقي بيع “الوهم” للمواطنين سلعة رائجة، بينما الشارع يغلي كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه؟.