بقلم جورج عبيد

لم يعد خافيًا على أحد بأن أعمال الشغب في وسط بيروت عنوانها واحد: "منع قيام التحقيقات في من أدخل الأمونياك إلى مرفأ بيروت، والتي من شأنها أن تطال المتورّطين الصغار والكبار منهم:، وهي متواصلة مع عنوان آخر منع قيام التحقيقات الجنائيّة حول مصرف لبنان.

كشفت معلومات بأنّ القوى السياسيّة المتضرّرة تحرّكت بمجرّد تبلّغها الرسالة. هذه الحرب ليست على العهد بل على لبنان، ليست على حكومة بل على الدولة. ثلاث مراحل تعنون بها تطويق لبنان تحقّقت شلّ البلد ماليًّا واقتصاديًّا، رفع سعر الدولار بوحشيّة غير متناهية، تحطيم البنية التحتية بدءًا من المرفأ، وها هو التطويق ينطلق نحو "محاولة انقلاب" يقودها ضابط سابق لا يزال يقبض راتبه من الجيش اللبنانيّ، وهو من "المستهلكين والمستوعَبين" من قبل الإدارة الأميركيّة، تمّ من خلالها محاولة احتلال وزارات الخارجيّة والطاقة والعمل والسبحة تكرّ.

التطويق بدأ يشدّد قبضته بفظاظة وقوّة تحت ستار الثورة، والشباب المنضوون تحت صرخة الحقّ ولا ننكرها، مضلَّلون ومأخوذون باتجاه حقيقة غير التي يرجونها ويرونها. ما يحصل لم يعد بثورة بل إنه بداءة انقلاب والجيش اللبنانيّ إلى كتابة تلك السطور غير مقتحم كما كان دأبه.

إلى أين البلاد؟ قبل الإجابة، لا بدّ نا من إيراد معلومات بدأ الطلام عليها يسيرًا. مضمونها، بأنّ من استغلّ الاعتصام السلميّ في ساحة الشهداء قد أوهموا القوى الأمنية بسلميتها، بمعنى أننا أمام خديعة واضحة متشابكة الأضلاع والأوتار، قام بها المعرضون الأساسيون والجوهريون والشرسون للعهد، تمثلّت بداءة بمضمون المؤتمرين الصحافيين لوليد جنبلاط وسمير جعجع، باستغلال واضح ومقيت لحجم كارثة بيروت في سبيل الانقضاض على العهد، والبدء بتشذيب حزب الله و"تأديبه".

البارحة كان لي مقال تحت عنوان: "ما كان قبل الانفجار ليس كما سيكون بعده"، وأظهرت من خلاله بأنّ انفجار المرفأ ببيروت بهذا الحجم الكارثيّ ليس بصدفة على الإطلاق بل حالة مدبّرة بالتواطئ ما بين الداخل والخارج. نحن أمام اعتداء مباشر تمّ على العاصمة اللبنانية بيروت، وهو يشبه إلى حدّ كبير اغتيال رفيق الحريري والذي غيّر مجرى الأحداث في لبنان بتنفيذ القرار 1559 بدمه، مع خروج سوريا من لبنان، واحتشاد اللبنانيين ضمن ثورة أرز تم إجهاضها فيما بعد لمصلحة الحلف الرباعيّ الهشّ آنذاك، وانطلق لبنان نحو مرحلة مخضّبة بالدماء المذهبيّة والحرب الإسرائيليّة عليه، وصولاً إلى الحرب على سوريا.

الاعتداء على المرفأ جزء من حركة تدميريّة للبنى التحتيّة رسمت خريطتها الإدارة الأميركيّة العميقة، بعد مراحل انطلقت بها، لتصل إلى ما هو مباشر. ما دلّ على ذلك تلك الأدبيات المتلاحقة القائلة عن بزوغ مرحلة تكوينيّة جديدة للنظام السياسيّ. تاك الأدبيات تردّدت بالفعل، بداءة في أميركا وفرنسا عبر محللين سياسيين ربطوا الانفجار بمرحلة سياسيّة جديدة عملوا منذ سنة 2007 على تكوينها على مراحل، وها هم ماضون نحو التجسيد.

وإذا ساغ لي الكشف قليلاً، ليس الإهمال هو السبب، وهذا برسم أهالي الشهداء ورسم من تضررت منازلهم بدءًا بأقرب الناس لي. بل هناك تعمّد مباشر على استبقاء هذا العنبر ليأتي اكتمال العناصر الآيلة إلى استهدافه وتهديم بيروت معه. إن ثمّة تماهيًا عميقًا وبليغًا بين الداخل والخارج.
وفي مراجعة تاريخيّة، مرفأ بيروت استراتيجيّ بامتياز على مستوى الملاحة البحريّة في الشرق الأوسط قاطبة. لقد انطلق هذا المرفأ بديناميات باهرة ومضيئة جعلته واجهة الشرق، وقد كان قبله مرفأ حيفا وبالتحديد قبل النكبة يحتل هذا الموقع. إنه الشريان الحيويّ والنهضويّ على المستوى التجاري للبنان وسوريا على السواء، إذ فاق بموقعه مرافئ بور سعيد وطرطوس واللاذقية والإسكندريّة وتركيا. الاعتداء على مرفأ بيروت أبطل تلك الحيويّة حتى إشعار آخر ليعود مرفأ حيفا حاويًا لتلك الحيويّة، بمعنى أن تدمير مرفأ بيروت جاء لمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى، ومن أمّن تلك المرحلة هم الأميركيون أنفسهم الذين يقتلون القتيل ويسيرون في جنازتهم.

السؤال المطروح ماذا يعني الكلام عقب هذا الانفجار على تكوين نظام جديد؟ وعن اي نظام يتم الكلام عليه، وما معنى أن يفاجئ رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب اللبنانيين بتبنّي أطروحة الانتخابات المبكّرة، تلك الأطروحة التي رفضها الئيس عون في الأساس كما يرفضها حزب الله والرئيس برّي معه مع عدد من القوى المؤثّرة؟

تقول المعلومات بأنّ ثمّة اتفاقًا محدّدًا، لم تظهر خطوطه بعد، مفاده بأن تقوم الحكومة بتقديم استقالتها، والتوجّه من جديد نحو صيغة حكومة وطنيّة. وتضيء المعلومات على تشدّد أظهره فيما سلف نائب رئيس المجلس النيابيّ إيلي الفرزلي، بضرورة الاتجاه إلى تلك النوعية من الحكومة معتبرة بأنّ كلامه لم يكن منطلقًا من قراءة ذاتية، بقدر ما هو استقراء أجراه الرجل مع المواقع المؤثرة على القرار، ليظهر فيما بعد بأنّ الأميركيين والفرنسيين متفقون على إعادة الاعتبار لهذه الحكومة، ولم يتبيّن بعد ما إذا كان انبلاج تلك الحكومة يستبق الانتخابات المبكرة أو يعقبها؟

إن إنفجار المرفأ بهذا المعنى أطلق العنان لمفهوم التدويل، ومفهوم التدويل سيكون المنطلق لتطويق سوريا لكون موقع لبنان يحوي بطبيعته تلك الإشكاليّة المستحبّة على مستوى الخارج. فلا باس في تلك العجالة من التذكير بمقولة ألكسندر هيغ بأن لبنان كيان عبور نحو المنطقة. هم يريدونه كيانًا هشًّا بنسبة متوسطّة خادمًا لمصالحهم، يعاونهم في هذه المرحلة رجب طيب أردوغان الذي يبحث من سوريا إلى لبنان إلى ليبيا إلى فلسطين إلى قطر عن عثمانية يريدها شريكة في القرار، وهذا عينًا ما يفسّر التواجد الأردوغاني في الشغب البيروتيّ الذي اتسع اليوم بانضمام قوى تابعة للقوات اللبنانية والحزب التقدميّ الاشتراكيّ وقطاعات تابعة لمنظمات دولية. لقت تقاطغت المصالح للضغط المباشر باتجاه الانقضاض على رئيس لا يزال شامخًا ويملك أوراق القوّة بين يديه، وهو في حديثه البارحة قطع الطريق على إمكانية التدويل.

ماذا عن موقف حزب الله؟ قال سيد المقاومة كلامًا واضحًا أمس: إن لم يصل التحقيق نحو خواتيمه نحن أمام تكوين جديد للنظام والدولة. الصراع سيكون محصورًا بما سيظهره التحقيق. قبل انبلاج فجر العهد والأمونياك مخزّن في مرفأ بيروت، فلماذا حشر العهد به مع الحزب؟ مدير المرفأ تابع للحريرية السياسيّة.

ختامًا لا بدّ من القول، بأن شهداء بيروت سيبقون يتحركون يدمائهم الصارخة من جوف الأرض حققوا الحقّ. لا تستغلّوا دماء أهلنا باتجاه حراك سياسيّ تشاؤونه بوجه رئيس ناصع الجبين، قال لكم بأنه ابن هذه الأرض، لم يولد وملعقة الذهب في فمه. أنتم تخطئون في توجهاتكم إن حركتكم العرائز ولم تقعّلوا عمل العقل بالتقييم السليم. إنكم يدفعونكم لتنقموا على ميشال عون كشخص ورئيس، ومن يدفعونكم هم من سرقوا لبنان وهرّبوا أموالكم إلى الخارج.

بالله عليكم يا جماعة الخير، هل سألتم كيف بقيّة الطبقة السياسيّة قد أمّنت ثرواتها، ألم يقل واحد منهم أنا من كبار حيتان المال؟ أنتم تدّعون إطلاق شعار كلّن يعني كلّن، والانفجار داعم بمضمونه لشعاركم ويدقعكم بدافع الحرقة في القلوب لترداده، لكن لو فرضًا استجاب ميشال عون لرغباتكم وقدم استقالته فهل تكملون الثورة أو تتوقفون؟ اسمحوا لي بأن أزعم بجزم وحزم حتمًا ستتوقفون لأن من دفعكم إلى الضغط في الساحة سيترككم وحيدين من بعد تحقيق مآربه.

وبالفم الملآن، ميشال عون لن يستقيل، ميشال عون حجر زاوية لبناء لبنان وإعادته إلى الحياة. ميشال عون قبل البلوغ بوقت طويل نحو تلك النكبة دعاكم كوالد حبيب للحوار فرفضتم، فانكشفت حقيقتكم بل حقيقة تعليبكم من الخارج من شينكر إلى فيلتمان إلى بومبيو...

ما قمتم به اليوم ليس دعمًا لأهل بيروت، وليس تقديسًا لشهدائها بل خيانة عظمى ضللتم من خلالكم أناسًا أحبهم، جعلتموهم يظنون بميشال عون ويعتقدون أنه المذنب وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا فيما هو قادر على كلّ شيء.

غسان تويني قال إرفعوا أياديكم عن لبنان. وفي ختام عجالتي، أكرر الصرخة إرفعوا أياديكم عن لبنان، وحولوا الأحقاد إلى صرخة محبة تجمعنا على البرّ والخير والحقّ.