المبادرة الفرنسیة ما زالت "حیة تُرزق" والرئیس إیمانویل ماكرون ما زال مواظبا على التدخل شخصیا ومتابعة
تفاصیلھا رغم انھماكه في المواجھة المتوسطیة مع تركیا، ورغم عودة إحتجاجات "السترات الصفراء" الى شوارع
باریس. وھذا الإصرار الفرنسي أكد علیه ماكرون في خلال إتصالھ مع الرئیس بري للحد من موقفھ الغاضب والمشاكس
الذي بات یھدد جدیا مجمل العملیة الحكومیة ومعھا المبادرة الفرنسیة، وأیضا إتصاله مع الوزیر جبران باسیل الذي
تلقى على أثر ذلك أول إتصال من الرئیس المكلف مصطفى أدیب... وكان ماكرون صریحا وجادا في مخاطبة الذین
تحادث معھم من السیاسیین اللبنانیین، مشددا على ضرورة بذل كل ما یمكن لتسھیل وتسریع عملیة تشكیل الحكومة.
وھو أبلغ المعنیین بأنه لا یرى مبررا مقبولا لإعاقة وتأخیر ولادة الحكومة الجدیدة بالوقت المحدد بأسبوعین منذ تكلیف
مصطفى أدیب بتشكیلھا، بعدما التزم جمیع الأطراف بتأیید تنفیذ المبادرة ودعمھا ولم یطلب أي طرف تعدیلھا
أومعارضتھا، كما أنه لم یسمع من أي طرف مطالبته المسبقة بھذه الوزارة أو تلك، بل وجد كل تقبّل وتجاوب مع ما
طرحه. ُوعلم أن ماكرون شدد على ھؤلاء الأطراف بأنھ تح ّمل شخصیا تبعة المجازفة مع الولایات المتحدة الأمیركیة
والغرب عموما في إبقاء خطوط التواصل قائمة مع حزب الله والأخذ بھواجسه ومطالبه لا سیما منھا معارضته لعدم
إجراء انتخابات نیابة مبكرة.
في الواقع، طرأ منذ ثلاثة أیام تحول "مقلق" في مسار الوضع وعملیة تشكیل الحكومة الجدیدة، وھذا التحول تمثل
خصوصا في رفع الرئیس نبیه بري السقف السیاسي لموقف وشروط الثنائي الشیعي لجھة التمسك بأن تبقى وزارة
المال في عھدة الطائفة الشیعیة، وأن یسمي ھو وزیر المال الجدید، وقد أسبغ على موقفھ بعدا مثیاقیا له صلة
بالتوازنات الطائفیة ومشاركة الشیعة في السلطة التنفیذیة وقرارھا عبر التوقیع الثالث. وھذا التصعید من جانب بري
والمدعوم بطبیعة الحال من حزب الله، حصل بفعل العقوبات الأمیركیة التي طالته شخصیا من خلال العقوبات التي
فرضت على الشخص الأقرب إلیه والمصنف ثانیا في تراتبیة حركة "أمل"... ھذه العقوبات فعلت فعلھا في إغضاب بري
وإحباطه، الى حد إتخاذ مواقف متوترة والمساس بالتعھدات التي سبق وأن قطعھا الثنائي الشیعي للرئیس ماكرون. ذلك
أن بري ساورته شكوك في أن یكون الفرنسیون على علم مسبق بھذه العقوبات ولم یفعلوا شیئا لوقفھا أو تأجیلھا، أو
أن تكون العقوبات منسقة معھم ویتخذون منھا وسیلة لترویض الطبقة السیاسیة... وما ساءه أكثر أن الفرنسیینّ یصوبون على وزارة المال لوضع یدھم علیھا في إطار ضرب مكامن الفساد، وجاءت العقوبات على وزیر المال السابق
علي حسن خلیل لتخدم ھذا التوجه.
الأمر لا یقتصر على العقوبات الأمیركیة. ھناك أولا أسباب "داخلیة" تتعلق بالطریقة التي تشكل بھا الحكومة وفق
معاییر وطریقة جدیدة مختلفة تماما عن السابق تشي برغبة في تغییر قواعد اللعبة والتوازنات، إذ ینفرد الحریري في
تواصله المباشر مع الرئیس المكلف وفي التنسیق مع الفرنسیین، ووصل به الأمر الى حد إقتراح إسم وزیر المال سواء
بقیت ھذه الوزارة مع الشیعة أم خرجت من یدھم... ھناك ثانیا الضغوط الھائلة التي یقع تحتھا الثنائي الشیعي، بدءا من
تداعیات العقوبات والأزمة الاقتصادیة والمالیة، وصعود الموقف المسیحي تحت قیادة بكركي، وصولا الى حركة التطبیع
الإسرائیلي مع دول الخلیج وسحب ورقة الصراع مع إسرائیل من ید إیران...
صورة الإحتمالات والخیارات تُختصر الیوم على الشكل التالي:
١-یتوجه الرئیس المكلف أدیب الى قصر بعبدا لتقدیم أول تشكیلة حكومیة على رئیس الجمھوریة... أو أنه یكتفي
بالتداول في آخر المستجدات ویتریث في تقدیم حكومته المصغرة (١٤) .
٢-یوافق الرئیس عون على التشكیلة الحكومیة كما عرضھا أدیب إنفاذا لوعد قطعه للرئیس ماكرون بأن تولد
الحكومة في خلال مھلة أقصاھا منتصف أیلول... أو یتریث في الدرس والتشاور خصوصا بعد اصطدامھا بالجدار
الشیعي، لیصبح الخیار أمامه إما رد ھذه التشكیلة والدخول في أزمة مع ماكرون، وإما السیر بھا والدخول في أزمة مع
بري بعد رد الكرة الى ملعبه. ولكن بدل أن تكون حكومة بدایة خروج من الأزمة ستكون حكومة أزمة جدیدة...
٣-الجمیع في المأزق... رئیس الجمھوریة الذي علیه أن یختار بین المبادرة الفرنسیة والمقتضیات الداخلیة،
والرئیس المكلف الذي إما یشكل في مھلة محددة أو یعتذر، الثنائي الشیعي الذي علیھ أن یتماشى مع المبادرة الفرنسیة ویس ّھل أمورھا، بدءا من الحكومة، أو أن یدخل في صدام معھا ل التبعات
الرئیس ماكرون الذي یبدو أنه استُدرج الى المستنقع اللبناني وسقط في وحولھ وزواریبه وفي ألاعیب السیاسیین
ومناوراتھم... ماكرون یقف في نقطة یصعب فیھا التراجع بعدما وضع مصداقیة فرنسا واندفاعتھا في المنطقة على
المحك اللبناني، ویصعب التقدم على أرض مفخخة داخلیا، وأمامه ثلاثة خیارات: فرض حكومة أمر واقع بكل ما یترتب
على ذلك من نتائج... والتریث لتدویر الزوایا على الطریقة اللبنانیة والإنصیاع لقواعد اللعبة، وإما الإنسحاب من لبنان
وترك لبنان لمصیره "الأمیركي ـ الإیراني"...