قد تكون الإطلالة لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مساء أمس من
أكثر الإطلالات سخونة و"خطورة" في ما تضمنته من رسائل صريحة ومباشرة،
إمتزج فيها النصح والتحذير وطغت عليها النبرة العالية والقاسية... دخل نصرالله
بقوة على الوضع الداخلي وأزماته المتشعبة. قال رأيه وللمرة الأولى بهذا الوضوح في
شأن الملف الحكومي، معبّرا عن عدم إقتناعه بحكومة الإختصاصيين غيرالحزبيين التي لن
تقوى على مواجهة التحديات وعلى الصمود طويلاً ولا تنطبق عليها مواصفات المرحلة
التي تتطلب قرارات صعبة وكبيرة وشجاعة. صحيح إن نصرالله أكد إلتزام كان تعهد به في
موضوع الحكومة، وأنه في حال إتفق عون والحريري يوم الإثنين على حكومة سيمشي بها،
ولكن هذا التأكيد ليس مهما، لأن أمين عام حزب الله يعرف أن لا حكومة ولا إتفاق
عليها يوم الإثنين، ولأن هذا الموقف بدا من باب "رفع العتب"، في حين أن
الموقف الفعلي هو الذهاب الى حكومة تكنوسياسية، ومن الأفضل أن تكون سياسية
بالكامل...
وإذا تعذر ذلك، المبادرة الى تفعيل حكومة حسان دياب، بمعنى تعويم
حكومة تصريف الأعمال لتصبح حكومة قادرة على أن تجتمع وتقرر... وهذا الموقف من جهة
نصرالله مهم في مغزاه ودلالاته لأنه يعني أولاً التفلّت من أحكام وأطر المبادرة
الفرنسية التي تجاوزتها الأحداث، ويعني ثانياً حشر دياب والحريري في زاوية
الخيارات الصعبة غير المنسجمة مع مواقفهما السياسية و"الدستورية"...
ويعني ثالثاً الإنحياز الى الرئيس ميشال عون في معركة الحكومة وتقوية موقعه
التفاوضي. ويعني رابعاً أن أزمة الحكومة لا تقف عند حدود الخلاف بين عون والحريري،
وأن إتفاقهما إذا حصل لا يكفي لتشكيلها وإعلانها. فحزب الله لم يقل كلمته النهائية
بعد، وهو قال أمس "أول الكلام"
الذي لا يشجع على المضي في حكومة الإختصاصيين وفق الوصفة الفرنسية، والذي يسحب
عملياً ومسبقاً الغطاء عنها.
فإذا قيِّض لها أن تُشكل وتولد، لا يتوقع لها أن تنجح وأن تستمر لفترة
طويلة. لم يسبق أن بدا أمين عام حزب الله على هذا
القدر من "القلق الظاهر والغضب المكتوم". أمور كثيرة تشغل باله وموضوع
الحكومة واحد منها، ولكنه ليس الأكثر مدعاة للقلق والإستياء.
بدا نصرالله مدركاً لخطورة الأزمة الإقتصادية والمالية والإجتماعية
وتأثيراتها السلبية على مجمل الوضع المقبل على "الأسوأ"، مستشعراً
الضغوط والتدخلات التي حالة التململ والتذمر على الساحة الشيعية، مجتمعاً وتدفع
الى محاصرة حزب الله سياسياً وشعبياً ومالياً، والغليان، ما يدعوه الى بذل جهود
مركزة لضبط النفس والإنفعالات والمشاعر وردات الفعل، وإبقاء الوضع تحت السيطرة.
وجّه السيد حسن نصرالله 4 رسائل متنوعة سياسية حكومية، ومالية نقدية،
وأمنية "عسكرية"، وفي أربعة إتجاهات وعناوين:
1-
الى
الرئيس المكلف سعد الحريري ناصحاً أو داعياً إياه الى إعادة النظر بطبيعة الحكومة
وهويتها والإتيان بحكومة تكنوسياسية حتى لا تسقط حكومته في الشارع وتحرقه وتحرق
البلد.
2-
الى رئيس
حكومة تصريف الأعمال حسان دياب "الرجل الوطني" لـ"تفعيل حكومة
تصريف الأعمال"، وجمع الحكومة وتحمّل المسؤولية وعدم وضع شروط، مع التعهّد له
بالبحث عن حلّ دستوري وقانوني دقيق يحفظ التوازنات.
3 - الى
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي وجّه إليه "بالمباشر والشخصي" الرسالة
الأوضح والإنذارالأبلغ، محمّلاً إياه مسؤولية الحفاظ على صلة سعر صرف الليرة وعدم
إرتفاع الدولار، وإلا يفقد مبرر وجوده وبقائه في مركزه ومسؤوليته إذا لم يكن راغباً
أو قادرا على تحمّلها. وخاطبه بالقول: "بحكم علاقاتك وصلاحياتك يجب أن تقوم
بشيء لوقف إرتفاع الدولار. أنت تعرف وأنا أعرف أنك تستطيع أن تقوم بشيء، ومسؤوليتك
أن لا يرتفع الدولار، وما يحصل غير مقبول وجشع ومؤامرات".
4 - الى الجيش والقوى الأمنية للتدخل في موضوع الطرقات ومنع قطعها.
"واجب الجيش والقوى الأمنية فتح الطرقات
والتواصل مع القوى السياسية، وإذا لم توصل الأمورالى مكان للبحث"، بمعنى
"وقد أعذر من أنذر". واضح أن
موضوع قطع الطرقات بات يشكل واحدا من المواضيع الأمنية الميدانية الباعثة على
القلق لدى حزب الله الذي وكما وصفه نصرالله "عمل مشبوه" يعّمق الأزمة
ويذلّ الناس ويقطع الطريق على الموظف والعامل والمزارع والمريض... ويضع البلد على
"فوهة الحرب الأهلية".
الحرب الأهلية أشار إليها نصرالله في خطابه أكثر من مرة. تحدث عنها
كخطر قائم واحتمال موجود، وكمصدر تهديد أولاً للبنان، مشيرا الى مسألة قطع الطرقات
كواحد من أبرز الفجوات التي يمكن أن تنفذ منها الحرب الأهلية وتطلق شرارتها الأولى.
تحدث نصرالله عن معلومات أكيدة أن هناك جهات خارجية وداخلية تدفع باتجاه الحرب الأهلية
وتحويل لبنان الى مسرح لحرب أهلية، كما حصل في سوريا والعراق واليمن، واستخدام الأزمة
الإقتصادية وأزمة الدولار وتشكيل الحكومة لدفع البلد الى إقتتال داخلي، "ومن
يقول إننا فقط نحن من نملك السلاح (بمعنى أن الحرب مثل رقصة التانغو يلزمها طرفان)،
هذا خطأ وكذبة، لأن الحرب الأهلية لا تحتاج صواريخ دقيقة، بل تكفيها البنادق والأسلحة
المتوسطة، وهذا موجود عند أغلب اللبنانيين وكل الناس لديها سلاح...
نصرالله المسكون بهاجس الحرب الأهلية، يؤكد حرصه وقراره بعدم الوصول
الى حرب أهلية والتصرف بمسؤولية وعقلانية وإنسانية، ويرفض الكلام الذي يقول إن حزب
الله يمتلك قوة كبيرة جداً وعليه أن يفرض الحلول بقوة السلاح...
هذا كلام يؤدي الى حرب أهلية، وحزب الله ليس في وارد اللجوء الى السلاح
من أجل إصلاح ومحاربة الفساد أو من أجل تشكيل حكومة. ذهب السيد نصرالله الى
أبعد مما كان متوقعاً...
في موضوع الحكومة، في رسائله وتحذيراته وفي إشاراته المتكررة الى
الحرب الأهلية، وأيضاً الى "ثغرات في نظامنا السياسي" يجب العمل على سدّها.
وهذه الإشارة معطوفة على الدعوة الى حلول وطنية دستورية دقيقة تراعي التوازنات
الدقيقة، كافية لأن تثير حفيظة خصوم حزب الله الذين يلازمهم هاجس الذهاب الى
"مؤتمر تأسيسي"...