يواظب الروائي اللبناني فوزي ذبيان، الآتي من دراسة الفلسفة، على كتابة الرواية وأفكار الرواية. يختار مواضيع محددة للتركيز عليها، خصوصاً ثلاثيته التي أصدر منها حتى الآن "أورويل في الضاحية الجنوبية" و"خيبة يوسف"... وروايته الأخيرة "بيروت من تحت"، التي تعكس خفايا منطقة رأس بيروت، وتحديداً شارع الحمرا. عوالم وشخوص ولغات وسخرية وتهكم، في العبارات والسرد، شيء ما يدل على مصائرنا ومصائر المدن التي نعيش فيها. لعلنا لا نسهب في الكلام عن تجربة فوزي ذبيان وبروفايله الأدبي والشخصي. فقد طرحنا عليه مجموعة أسئلة ليروي نفسه بنفسه، وننشر هنا الأجوبة بلا الأسئلة...بين مكانينلدى انكبابي على "أورويل في الضاحية الجنوبية"، استوطنتُ الضاحية بشكل من الأشكال. الرواية كُتبت في العام 2010، وكنت في هذا التاريخ أنفق الحيز الأكبر من وقتي في أزقة الضاحية وزواريبها، وفي مقاهيها الظاهرة والخفية. تعرفت على الكثير من الناس هناك، وربطتني صداقة مع فئة من الناس تقصدت الانخراط في معمعانها الذي قد يبدو للناظر من بعيد أنه معمعان فوضوي، إنما هو، وإلى درجة كبيرة، في غاية الدقة والتنظيم.نسق العلاقات بين الفئة التي عايشتُها آنذاك، يقوم على تشفيرات من السلوك واللفظ والأداء وحركات الأجساد. لقد استهوتني هذه التجربة بما فاق تصوراتي، ورأيتني بعد فترة من الوقت جزءاً من هذا الجو. حتى الإختلاف الطائفي اندثر في علاقات هؤلاء الشبان معي. ثمة قبلية تاريخية، إذا أردنا أن نستعير قاموس الفلاسفة، اندرجتُ في مروياتها لدى انخراطي في أجواء الضاحية، فإذا بي واحداً من هذه القبلية. لقد كسبت ثقة شبان يشكل الإرتياب من الآخر أبرز صفاتهم، وهنا شعرتُ أني نجحت.لم أخطّ أي حرف في الرواية قبل شعوري بأن حمودي والريس بنزاكسول وأبو زهرة وحسن النووي، وباقي أشخاص الرواية، قد تلبسوني حتى العمق، وهو ما لم أعايشه لدى انخراطي في أجواء بيروت الثقافية. لقد كنت حريصاً على التداخل مع هذه الأجواء الإخيرة، إنما بشروط المعاينة الموضوعية إذا صح التعبير. بدأت في كتابة الرواية في منتصف 2016 على خلفية التظاهرات ضد النفايات التي عمّت البلاد، وكنت آنذاك قد تقاعدت من سلك قوى الأمن الداخلي، إنما "بيروت من تحت" قذفت بي إلى مزاج التحري الذي ينقب في أرشيف الخبايا والوجوه والمقاهي والنشر والأرصفة والجدران. ثمة مزاج حَكَم أفقي الذهني لدى كتابتي "بيروت من تحت". إذ، على الرغم من عدم وقوعي في فخ إنتقائية تأويل شارع الحمرا كنص، انطلاقاً من فرضيات نظرية سابقة، كالماركسية أو البنيوية أو نظريات علم النفس أو غيرها، فثمة ما لم أستطع الإنفكاك من سطوته آنذاك، وهو النظر إلى الثقافة على أنها نظام رمزي ينبعث أساساً من كيفية تأويل البشر لعلاقتهم مع العالم، وهو ما يسمى بالأنثروبولوجيا التأويلية أو الرمزية. كنت لدى اشتغالي على نص الرواية، حريصاً على عدم استنبات مقاييس جاهزة للصح والخطأ، إنما هذا لم ينفِ أن ثمة بوصلة فرضت نفسها عليّ بالتدريج أثناء قراءة الشارع وتأويله. نعم، لقد استولد شارع الحمرا في ذهني فكرة مؤداها أن النظام الرمزي الذي يحكم إنتاج الثقافة في هذا الشارع، يقوم على عنوان عريض تتشعب منه عناوين شتى. أما هذا العنوان فهو politics of recognition وأنا أحبذ في هذا السياق ترجمة كلمة recognition بـ"الوجاهة" وليس الإعتراف. فإذن، ثمة بُعد يقوم في العمق على سياسة الوجاهة، ويؤسس المشروع الثقافي في شارع الحمرا، وربما يستمد هذا البُعد جذوره من أصول ريفية، ومن نافل القول إن هذا حُكم وصفيّ وليس تقييمياً على الإطلاق.إزاء الوقوف على السؤال الذي يتحرى ما يجمع عالم المهمش في الضاحية، بعالم المثقف في الحمرا، أجدني أقرب إلى الفكرة التالية: كلاهما يعمل في سياقه على تلمس الصلابة في ما هو متشظٍّ. إنما المفارقة تكمن في نجاح مهمش الضاحية في مهمته، بما لا يقاس، بالمقارنة مع جماعة الحمرا، وليس في الأمر انتقاصاً من هؤلاء الأخيرين. فمهمّشو الضاحية هم في بعض متونهم، شعراء، بالمعنى الذي ذهب إليه ت.س.إليوت للشعر، أو، وبتحديد أكثر لمأرب الناس من الشعر. فبالنسبة إلى إليوت، قدرة الشعر على الدمج، أكثر دلالة من قدرته الجمالية. فالعالم يستدعي الشعر لرتق الشقوق التي تعتريه، وللحد من التعقيد العصيّ على الإستيعاب. أظن أن مهمش الضاحية، وعبر قاموسه الدلالي الخاص، استطاع رتق عالمه الممزق بشاعرية تتجاوز الهذر اللامتناهي حول شكل القصيدة، وكل التنظير القصيدي بالإجمال، الذي ما زال سائداً في مقاهي الحمرا وندواتها كثفل في قعر فنجان. مهمش الضاحية هو شاعر على طريقته الخاصة والتي لا تحفل بمنبر ولا وجاهة ولا سعي وراء جائزة من هنا أو تكريم من هناك. ربما هو شاعر عبر جسده ودراجته وسعيه الخفي للتملص من استبداد المنظومة التي تدعي تمثيله… قد يكون جسد هذا الشاب ومكانه هما شكل القصيدة ومضمونها.
البيرةكلا، بيروت/ الحمرا لا تشبه الضاحية، ومع هذا ثمة تنافذ osmosis بين الحيزين. فالضاحية موجودة في الحمرا بالعلن، والحمرا موجودة في الضاحية بالسر. لا أخفيك سراً أن البيرة لذيذة جداً في مقاهي الضاحية، وغالباً ما كنت أتناولها في أكواب النسكافيه، فكل ممنوع مرغوب كما تعلم. كما أن رموز النصر التي نراها في الحمرا، من آن إلى آخر، أخف وطأة من تلك المفلوشة في طول الضاحية وعرضها. فمن علامات الإنتصار في لبنان أن تحتسي قهوتك على رصيف أحد المقاهي من دون أن تموت برصاصة طائشة أو بإنفجار يوزع أشلاءك بين مطعم "بربر" ومصرف لبنان، على سبيل المثال لا الحصر.من المستحيل الركون إلى التقسيم الطوبوغرافي في ما يتعلق ببيروت من فوق، وبيروت من تحت. فبيروت من تحت، هي عينها بيروت من فوق، والعكس صحيح. ثمة تداخل طبقات يحكُم المشهد أو، إذا أردنا أن نستعير إدوارد سعيد، ثمة طباقية counterpoint وهو مصطلح استعاره سعيد من المعجم الموسيقي. فإذن، الحمرا من هذه الناحية، هي عبارة عن أوبرا ارتجالية، أو فلنقل هي نمط منظور من موسيقى الجاز، حيث الإرتجال سيد الموقف، وحيث النشاز يعطي جمالية غالباً ما لا تكون متوقعة. وفي سياقنا، إن النشاز المتأتي من تحت قد يكمل صورة المشهد كي لا أشطح وأقول قد يختزلها. فكما تعلم، ثمة من رأى في "التحت" أصل المدينة، وهو الأصل الذي لا يفتأ مَن هو فوق على كَبته، وغالباً ما ينجح في هذا الأمر. إن المنتصرين يكتبون التاريخ، ويرسمون معالم المدينة، وهي الفكرة التي بنى عليها فالتر بنيامين جلّ نقده للحداثة، كما تترجم هذه الحداثة نفسها عبر المدينة الحديثة. نعم، إن بيروت كما تناهت إلينا منذ منتصف التسعينات، هي مدينة حديثة من فوق، لكنها من تحت أقرب للمزاج الريفي، وهذه الفكرة قالها بشكل جلي شاعر من آل عبدالله كان يعرف بيروت أكثر مني. أعود وأكرر أن هذا ليس حُكماً قيمياً، لكن هذا لا يلغي أن الثقافة بالتصوّر العالمي لا يمكن أن تتأتى عبر الريف. وانحيازي للعالمي في هذا السياق، مرادف لانحيازي لمَا يشكل القاسم المشترك بين البشر في جل تنويعاتهم اللامتناهية، على مستوى الجنس والعرق والجندر واللون والدين والإلحاد وحرية عبادة الأوثان والإنتحار، وهو ما لا يمكن أن يلقى صداه في الريف، وأنصحك بالمناسبة بمشاهدة فيلم dogville لنيكول كيدمان على الرغم مما يعتوره من مبالغات.لست أدري إذا ما كنت قد وُفقت بترجمة هذه الفكرة روائياً عبر فصل عنونته "القرية الصغيرة" في رواية "بيروت من تحت". ملاحظة أخيرة في ما يتعلق بالفوق والتحت لدى التطرق إلى المدن. لا يمكن في هذا الصدد، تجاوز التشابك الحاد بين المخيلة والتاريخ. فإذا كانت الذاكرة هي مادة التاريخ الأولية، فالمخيلة هي المشكّل السري له، ولعل من الطرافة أن الجذر اللغوي لكلمة تاريخ في اللغات الأوروبية يعني من ضمن ما يعنيه "إبداء الرأي"، حيث تداخُل الذاتي والموضوعي هو سيد الأحكام."بيروت من تحت" ليست تأريخاً للحياة الثقافية أو النضالية في شارع الحمرا. لم أردها أن تكون صورة شمسية لهذا الشارع ولا البورتريه المعدّل له. كلا، كل الحكاية أني عمدت إلى مساءلة أبطال هذا الشارع ومكرَّسيه وكليشيهاته وتلك النوستالجيا المملة، التي ترسم ذاكرته وما زالت تمد رأسها عبر شقوق تاريخ المآسي التي تحفر عميقاً في جسد هذا البلد. فالرواية قد تكون نوعاً من الفرار مما هو ثقيل ومتجذر ومنتشر إلى حد الملل.اللغةثمة استبداد يمارسه الحدث أثناء السرد. بالتالي لا يعود التوفر على العامية بالأمر الإختياري. فأنا لا أستطيع مثلاً أن أتخيل أن الريس بنزاكسول في "أورويل في الضاحية الجنوبية" يقول لحمودي في أحد مقاهي الضاحيه: هلا ناولتني نبريش النارجيلة يا صديقي!! كلا، فنحن عبر هذه العبارة في سياق اجتماعي مغاير كلياً لسياق مقاهي الضاحية. فالمعجم اللغوي في هذا السياق هو جزء من السلوك الجسدي، واللسان في هذا السياق هو عينه المكان.إن العامية في رواياتي ليست اختياراً أو محاولة للتميز، فأنا أعشق الفصحى، إنما احتكاكي المباشر بالطبقات التي أتناولها في قَصّي، ولّد هذه اللغة حيث العامية تتشابك مع الفصحى، فالنص في نهاية الأمر هو واقعة علائقية بين جملة من الترتيبات الشكلية التي غالباً ما تباغت حتى الكاتب. لا عقدة لدي في إتخام نصّي بالمحكية، وأحياناً أرى أن المحكية هي الأصل، والفصحى دخيلة. وضع دانتي سنة 1304 كتاباً عن البلاغة العامية، يشيد فيه باللهجات العامية، مُطلِقاً عليها اللغات الأم، وهو يرى في الفصحى لغة ثانية أو لغة مكتسبة، بل هو يرى أن كلاً منهما ينتمي إلى حقل دلالي مختلف عن الآخر، حسب تعابير علماء النص الحديثين، ونحن نتكلم عن مؤلف "الكوميديا الآلهية".مرة، قال لي الصديق يحيى جابر، في أحد مقاهي بدارو، إن بعض الكتّاب يكتبون للناس بلغة لا يفهمها هؤلاء الناس، وهي عبارة صحيحة إلى حد كبير. نعم، ثمة سياقات حدثية تستوجب العامية، وأحياناً هذا الوجوب لا يتعدى كلمة واحدة قد تفي بالغرض. فهل لك أن تتخيل الشبق الدلالي لكلمة "إسّا" في سياق ما، بالمقارنة مع كلمة "الآن"، عندما يستوجب السياق فرض "إسّا" وليس "الآن"؟!!هذا على مستوى النص في مباشريته، أما على مستوى الميتانص، فإن التوفر على العامية ربما يشكل بالنسبة إلي هروباً من سلطة الواحد الأحد. نحن كعرب لا نملك السيادة المطلقة على اللغة العربية، فالله هو سيد هذه اللغة وسياجها وهو فصيح العرب الأول والأخير. بالتالي إن تضمين الفصحى، المحكيات المحلية، هو في بعض مضامينه فرار من سلطة الواحد القولية، وبالتالي فرار من انعكاس هذه الواحدية بشكل عام على تصوراتنا عن العالم. أفهم جداً موقف حراس البنيان الفصيح، واستوعب نظرتهم التي ترى أن العلاقة بين الفصحى والمحكية هي علاقة تناطحية على الدوام، إنما وإنطلاقاً من تصور عن العالم أتبنّاه ويقوم على التعدد اللانهائي لأنماط السلوك والجندر والتعبير والإنتماء والهوية بالإجمال، أرى أن العامية تغني الفصحى عبر الحد من غلوائها، وتشحنها بضروب من الخفة، وربما الفرح والإنفتاح. كلا، ليس صحيحاً أن الديك الفصيح من بطن أمه يصيح، كما يقول المثل العامي. فالصياح غالباً ما يكون أداة اعتراض على كل ضروب الإستبداد والتسيد والسيطرة، والإستبداد اللغوي ضمناً.دعني أختم بالتذكير أن بعض الكلمات العامية قد تشير إلى الأصل الطفولي للفصحى قبل تحولها إلى راشد لا يجيد سوى الزجر بأصبع لغوي شديد البنيان لا يطيق لغيره وجوداً. بالتالي لعلّي، عبر العامية، أقول مستعيراً أحد الشعراء: إلهي، أعرني انتباهك… حتى لو ما كنت بحكي لهجتك.
العنوان غالباً ما يشكّل العنوان قلقاً دائماً بالنسبة إلي، على الرغم من أن بعض العناوين تأتي عفو الخاطر كـ"بيروت من تحت"، وبعضها أضعه حتى قبل الشروع في الكتابة مثل "أورويل في الضاحية الجنوبية". أما هذا القلق فيعود إلى تصور عن النص، أجدني ميّالاً إليه. فالنص هو بؤرة محدودة بالشكل، لكنه بالمضمون إطار لتنوع دلالي، وبالتالي للكثير من التأويلات. لا أوافق على التصور الهرمي للنص، حيث يشكل العنوان، عطفاً على هذا التصور، قمة الهرم، والمتن يشكل مجمل انفلاشه. إن رفضي لهذا التصور يعزز أيضاً من قلق العنوان وتداخل عناصر تكوينه في ذهني.كل كلمة في أي نص، هي مأهولة حكماً بعدد لا يحصى من الكلمات، فكيف لك من ثم أن تختزل كل هذا عبر كلمة واحدة أو كلمات قليلة عادة ما تشكل العنوان؟!!فكل عنوان هو حذف لعنوان آخر، لكن هذا لا يعني أن ذاك المحذوف غير متضمَّن بشكل ما في العنوان الذي قد اعتُمد. يقول أهل الإختصاص الأدبي، إن العنوان هو العتبة. قد يكون هذا الكلام في محله إزاء بعض النصوص، إنما أنا أرى، وفي ما يتعلق بالرواية تحديداً، أن العنوان هو العتبة والمتن في آن معاً. فالأمر أشبه بعلاقة الفيل بخرطومه. هل الخرطوم هو الفيل؟ طبعاً لا، ولكن ماذا عسى أن يكون الفيل بلا هذا الخرطوم؟كل عنوان يشير إلى دلالة ما، ومن المستحيل أن تعكس هذه الدلالة الإحتمالات القصوى للمعنى الذي قد يثيره المتن. فلكل معنى، كما تعلم ظلال معنى، وهي ظلال من النادر أن تكون محل إجماع من قِبل زمرة القرّاء. كل هذه الأمور تؤشكل مسألة العنوان في رأسي، وهو ما حصل معي لدى الإنتهاء من كتابة "خيبة يوسف" إلى درجة أن الكتاب كاد يصدر بلا عنوان، ولا أخفيك أني كنت محبذاً لهذه الفكرة لولا متطلبات النشر.أما في ما يتعلق بعلاقة العنوان بالتسويق، فهي من أبعد الأمور عني. فأنا لدى انكبابي على فعل الكتابة لا آخذ قضية نشره في الإعتبار، فما بالك بتسويقه. إن القارئ في نهاية الأمر هو كائن الصدفة بالنسبة لأي نص، فمن ذا الذي يستطيع جمع لمام كل هذه الصدف بما يتناسب مع مآربها! فالنص هو مأربي الخاص، بالتالي إن البُعد الأول والأخير الذي يشكل حافز الكتابة عندي هو المتعة… إن الكتابة اللامشروطة بأفق الآخرين، هي متعة تستبطن حرية لا حد لها. لا تربطني رابطة بجماعة التهذيب الأخلاقي (self expurgation) كما يسميهم أهل النقد، أي أولئك الذين يأخذون المحتوى الثقافي والأخلاقي لبيئتهم بعين الإعتبار لدى كتابة شيء ما. طبعاً، لا أنحو إلى ما ذهب إليه الجاحظ حين قال: ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء. ليست هذه بوصلتي في الكتابة، ولستُ من جماعة رفض التلقي (بنيامين)، لكن هذا لا يلغي أن المتلقي الأول لنصي هو أنا، حتى أن صديقتي الناشرة رنا إدريس، على سبيل المثال، نصحتني بعدم نشر "بيروت من تحت" لأن "حتحرقك" كما قالت لي، وقد جعلتني ملاحظتها سعيداً، وما زاد من سعادتي أن الشاعر خالد المعالي تبنى الرواية وعمد إلى نشرها في الدار العريقة، دار الجمل..في ما يتعلق بتنميط الرواية، كما جاء في سؤالك، لست أدري ماذا تقصد بالعبارة بالتحديد، لكن التنميط بشكل عام يبدأ لحظة استجابة النص للشيفرات المؤسسة للثقافة السائدة التي ستستقبل هذا النص. أحبّ أن تخضع رواياتي لنوع من التأقلم الثقافي المذعور، إذا صح التعبير، لا أن تكون محل طبطبة سعيدة على قفا الكتاب مع اللحظات الأولى لصدوره.مرفأ بيروتعندما وقع انفجار المرفأ في 4 آب، كانت "بيروت من تحت" في طريقها إلى الطبع. إنما هذا لا يعني على الإطلاق ان انفجار المرفأ كان يستوجب أي تعديل في نص الرواية. أنا ولدت في أواخر العام 1974، وبعدها بعام واحد وقع انفجار ولم ينته حتى اليوم.فالإنفجار جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية في لبنان، تماماً مثل احتساء القهوة في المقاهي والسهر في الجميزة وتناول الشاورما والكبة النية والعرق وسماع فيروز والصبوحة وإليسّا والوسوف. إن الإنفجار في لبنان هو النص الأشمل الذي يستبطن كل النصوص الأخرى، بل لعله في بعض متونه بمثابة أرشيفنا الأول الذي نأبى إغلاقه ووضعه في الأدراج. نعم، إن الإنفجار لا يشكل استثناء في حياتنا العادية إلى أن يأخذ إنفجار ما بيدنا إلى موت فعلي وبالتالي إخراجنا من موتنا المؤقت على الدوم.أورويلأنا أيضاً سألت نفسي هذا السؤال، لكني تركت الجواب النهائي معلقاً. لا شك أن اسم أورويل محل إغراء شديد، لا سيما في تلازمه مع عبارة الضاحية الجنوبية. لقد أدى هذا العنوان إلى افتراضات مسبقة لدى الكثير من القراء، وثمة من رأى فيه نوعاً من الإستفزاز أو التجني، كما تناهى إليّ.أكثر ما حفّز أورويل في رأسي، كجزء من عنوان الرواية، هي تلك الشاشات العملاقة التي تبث خطابات نصرالله في طول مقاهي الضاحية وعرضها، ثم تلك الوعود الدائمة بالنصر وهذه الشغلات. لقد حوّل حسن نصرالله، الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، إلى واقعة بلاغية يقوم بنيانها بشكل رئيسي على المبالغات القولية ونمط معين من الإداء. ولعله من النافل القول أن عالماً يحفل بالصور البلاغية إلى حد التخمة، سيفتقر إلى الإستقرار والوضوح، فإذا بالصاروخ مثلاً يتحول إلى إكليل غار فوق رؤوسٍ أكثر ما يشغلها تأمين الشروط الأولية للعيش. كل شيء ضبابي لدى شيعة "حزب الله" وأهل الضاحية ضمناً، إلا وجه حسن نصرالله. ثمة إلحاح على الحضور الجسدي الذي يتمظهر عبر إداء رائع، بدءاً من حركة الإصبع، وصولاً إلى نبرة الصوت. فلكي يكون الفعل صالحاً للإخراج، لا بد من وجود ممثل قدير إذا أردنا أن نستعير قاموس المسرح كي تتضح الفكرة أكثر. نعم، ثمة ما يشي بأخ أكبر جليل، دائم الجهوزية لرسم خرائط كل شيء، حتى المشاعر والإنفعالات: تصير الهزيمة نصراً، وذل العوز يتحول إلى تحدٍّ لكل أمم الأرض، وهكذا دواليك. غريبة جداً هذه القدرة على ضبط المشاعر وردود أفعال الجمهور، وهذه القدرة على إعادة صياغة البداهات. حتى المثقف وأستاذ الجامعة، المنضوي ضمن هذا السيستم، يتحول إلى دمية تنظيرية.فالضاحية هي دغل هائل من الرموز والشعارات والعبارات الرنانة والإستعارات التي تجافي بصورة مطلقة واقع حال الناس هناك، وعلى رأسهم تلك الفئة التي تطرقت لها "أورويل في الضاحية الجنوبية". على كل حال، غالباً ما يفرض صاحب السلطة استعاراته، وليس على الآخرين سوى التماهي مع هذه الإستعارات.لقد حثّ الولوج إلى العالم السري للضاحية، فضول القارئ بشكل كبير. ففي أحد اللقاءات حول الرواية، قالت لي سيدة لبنانية لم تدخل الضاحية يوماً، إن قراءة الكتاب جعلتها تشعر بأنها جزء من ذلك المكان. فغالبية الذين كتبوا عن الضاحية، سواء نثراً أو شعراء، هم وبدرجات متفاوتة أدوات لقوى الأمر الواقع وللمنظومة التي ترسم الفضاء الثقافي للضاحية، إلا في ما ندر، وتحضرني الآن أسماء وضاح شرارة ويوسف بزي وفادي توفيق.لا ينفتح صدر الضاحية لقول يخالف قول سيدها، إلا في الخفاء والستر، وهو حال أولئك الشبان الذين فتحوا قلوبهم لي، فإذا بي مشبع بعالمهم الغريب الذي غالباً ما كان يطفح بدموع خجلة من آن إلى آن.لا أخفي القول إن الضاحية هي بالنسبة إليّ مادة دسمة للقصّ، لكثرة ما يكتنف عالمها من غموض وتشابك وتداخل بين عناصر من النادر أن تلقاها في مكان آخر. فليس بالأمر العادي أن ترى يسارياً عتيقاً، يرى في نصرالله كارل ماركس، على سبيل المثال. فأنا الآن، وبعد "أورويل في الضاحية" و"خيبة يوسف"، أجد نفسي في حيرة من أمري حيال وضع نقطة النهاية للجزء الثالث من ثلاثية الضاحية، والذي يتطرق إلى موضوع مسكوتاً عنه هناك إلى حد الصمت المطبق.إنما، وعلى الرغم من الإغواء الذي مارسه مزج أورويل (1984) بعالم الضاحية، يبقى أن ثمة تكنيكاً سردياً لم أكن فاطناً إليه، ساهم في الإقبال على قراءة العمل، ليس في لبنان وحسب، إنما ثمة قراء عرب لا تعنيهم الضاحية بشيء أبدوا إعجابهم بالكتاب. ولنا في المقالات التي تطرقت للكتاب، من حيث الشكل، خير دليل على هذا الأمر. وتحضرني في هذا السياق القراءة التي أولاها الباحث المغربي محمد برادة، لقضية العامية والفصحى في الرواية، والتي ضمها في ما بعد إلى كتاب وضعه خصيصاً عن الرواية العريبة الجديدة.إذن، ثمة تناص بين المكان والسرد، لعب دوراً محورياً في قراءة هذا العمل من زوايا نظر مختلفة، وهو اختلاف ربما يكون قد نجم عنه فهم أكمل للنص. إذ عندما تصل الممارسات التأويلية إلى إتفاق على عدم الإتفاق، ثمة صورة تُقدِّم عندئذ فهماً أعمق للعمل الروائي بالإجمال.السخريةليس للموضوع علاقة بالمتعة من قريب أو من بعيد. فالسخرية بالنسبة إلي هي عبارة عن political statement. إنها أفق أواجه عبره الواقع التعيس الذي نعيشه في لبنان. لست أدري متى تلبسني هذا المزاج بالتحديد، لكني أظن أن البداية كانت مع تظاهرات العام 2015 ضد أزمة النفايات التي هيمنت على البلد، وقد انعكس هذا المزاج بشكل صريح في "بيروت من تحت". فالرواية في بعض متونها، إنعكاس لهذه الأزمة.لقد اتخذ هذا النمط من التعاطي مع الأحداث، وجهته الحادة، إبان ثورة 17 تشرين، حيث أبدت قوى الأمر الواقع التي تحتل السلطة في البلاد، كل ضروب اللامبالاة والعهر السياسي، وصولاً إلى اتهامنا بالعمالة للسفارات. عندما يصفعك الواقع المزري كل يوم، ما عليك عندئذ سوى السخرية، كحيلة للرد على تلك الصفعات الوقحة... مَن يحكمنا في لبنان؟صحافي إيطالي، اسمه انطونيو فيراري، وصفهم في كتاب له بالبونابارتات الصغار الذين أخضعوا المجتمع اللبناني بكل مكوناته لمآربهم القميئة. نحن رهن مشيئة مجموعة من الصعاليك، تترواح زعاماتهم في حدها الأعلى كمرتزقة لدى نظام توسعي، وفي حدها الأدنى كحديثي نعمة بُلهاء من الطارئين على المشهد العام، وبين الحدَّين يحوم الباقي بطنينه السياسي المشين، فإذا ببلدنا زقاق خلفي لكل صراعات المنطقة والعالم… إنهم إهانة في حياتنا، هم بصقة في صحننا اليومي.أحياناً أشعر أننا نحن في لبنان أشبه بالشخصيات الكافكاوية التي تخضع لعقاب دائم، بسبب ذنب لا تعرف عنه شيئاً، وبطبيعة الحال لم تقترفه. إزاء هذه الوضعية التي تشبه الحلقة المفرغة، لا ينفع المنطق الإنساني السليم، ولا مقارعة الحُجّة بالحُجّة. فخصمك من الصفاقة بحيث لا يتمتع بالحد الأدنى من الأخلاق التي تستوجب تغيير الإداء إذا لم يُرِد الرحيل.نعم، إن السخرية هي نمطي الخاص من القول السياسي ضد الظلم، وضد هذا المؤدى الذي أوصلتنا إليه مجموعة من السفلة تتحكم في حياتنا منذ عقود، وليس منذ اتفاق الطائف كما يردد عادة. فنحن منذ أن وُجدنا في هذه الحياة -أقله أبناء جيلي- مغبة قتل يومي، والسخرية في هذا السياق هي بمثابة ضحكة استهزاء في وجه فرقة إعدام تحترف قتلنا كل يوم. فضلاً عن قذارة أذنابهم، لقد استيقظنا في هذا العالم على أسماء بري وجنبلاط والجميّل وعون وجعجع، ثم الحريري وباسيل، وعلى رأس هؤلاء كلهم، حسن نصرالله، الناظم الفعلي لفرقة الإعدام هذه، كما تبدى عبر سنابك دراجاته النارية المدججة بالعصي والجنازير والتي كانت تنقض علينا في ساحات 17 تشرين.نعم، إن السخرية هي ابتسامتنا الأخيرة أمام هؤلاء القتلة. كلهم تواطؤا علينا عبر تلك الدراجات المشحّرة، والتي كنت أثناء فراري من بطشها أجد الإبتسامة تحفر ملامحي، إبتسامة سخرية تتراوح بين الشفقة والغثيان.