2024- 03 - 29   |   بحث في الموقع  
logo المرتضى: أيام بلادنا كلها جمعاتٌ حزينة logo "كتابه المفضل"...ترامب يطلق منصة لبيع الإنجيل بـ60 دولاراً logo منحة من جامعة "إكستر" البريطانية باسم شيرين أبو عاقلة logo عودة مجلة "لايف"...بعد انقطاع 20 عاماً logo مالمو تستعد لاستضافة "يوروفيجن" وسط مخاوف متعلقة بحرب غزة logo رئيس جمعية التضامن الشعبي أحمد فردوس: نستنكر الفلتان الأمني وندعو الجميع الى حماية طرابلس.. logo خلال زيارته واشنطن... سؤال عن غزة يحرج غالانت! logo الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل استهداف البازورية! (فيديو)
جورج ميلر يذكّرنا بالقوة المذهلة لسرد القصص
2022-09-26 13:26:13

المهرجانات السينمائية الأبرز في العالم، تلك المتحكمّة في وضع تقاويم العروض ومَنح "البرستيج"، هي النافذة الأولى للعديد من العناوين التي ستُطرح تجارياً في السوق الدولية في الأشهر التالية. أيضًا، بشكل غير مباشر ولحسابات غير مفهومة تماماً، يمكنها إخفاء جودة هذا العنوان أو ذاك نتيجة استبعاده من مسابقاتها الرسمية. شيء من هذا القبيل حدث مع فيلم "ثلاثة آلاف عام من الشوق"(*)، الذي عُرض خارج المسابقة في مهرجان "كانّ" السينمائي هذا العام، وهو أحدث أعمال المخرج الأسترالي جورج ميلر، الرجل الذي يقف وراء سلسة افلام "ماد ماكس" وحفنة من الأعمال البارزة الأخرى.
تضمينه كفيلم "خارج المنافسة" كان يعني أنه عمل مختلف، وليس شيئاً تقليدياً تماماً بمعايير سينما جورج ميلر. إذا شاهد المرء المقطع الدعائي أو صور الفيلم، سيعلم أنه لا يشبه نوع السينما التي شهرته عالمياً. لكن من المعروف أن مشاهدة المواد الترويجية للفيلم شيء، ومشاهدته شيء آخر. والحقيقة أن "ثلاثة آلاف عاماً من الشوق"، على الرغم من ندرة أمثاله وغرابته النسبية، كان من الممكن أن يتنافس بسهولة على السعفة الذهبية. في الواقع، هو أفضل بكثير من الأفلام المتنافسة.
في حكاية موضوعها الأساسي هو رواية الحكايات، يكدّس الفيلم أخيلة كتلك التي نقابلها في قصص ومسامرات يلقيها الحكّاؤون على مسامع الملوك والسلاطين (أو علماء السيميائية و"علماء السرديات"، كما في هذه الحالة)، وبمثل هذا العنوان يلعب الفيلم مع المرجع الأكثر من الواضح، ليالي ألف ليلة وليلة: مجموعة من القصص التي تربط الراوي بالمستمع، احتفاء بفنّ التخييل، ليس بالضرورة كمجموعة من الرموز والاستعارات ولكن كمتعة ومهارة رواية القصص، للإبهار والتسرية.
أليثيا (تيلدا سوينتون) هي عالمة سرديات وخبيرة في الروايات الخيالية في جميع الأزمنة، وخاصة القديمة منها، أكاديمية قامت بالقراءة والتأمل في مختلف الأساطير والنماذج الأصلية المشتقة منها. هذا مجال أبحاثها ومركز حياتها. تسافر إلى اسطنبول (على متن خطوط طيران شهرزاد، وتنزل في الغرفة التي يُفترض أن أغاثا كريستي كتبت فيها روايتها "جريمة في قطار الشرق السريع") لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول التاريخ والأساطير؛ وهناك تذهب إلى أحد البازارات السياحية وتقتني زجاجة صغيرة ملونة لفتت انتباهها. وفيها - صدّق أو لا تصدّق - يسكن جنّي، أحد تلك الكيانات الدخانية القادرة على منح الرغبات. على الشاشة، الجنّي المعني هو إدريس إلبا، بأذنين مدببتين وحجم أكبر من الإنسان العادي. كان حبيساً لمدة ثلاثة آلاف عام (ومن هنا جاء العنوان)، ينتظر فاعل خير يطلق سراحه، وفي المقابل يمنحه الثلاث أمنيات الكلاسيكية، لكن لا بدّ له أن يحققها جميعاً كي يستعيد حريته.
بالطبع، ليس من السهل إرضاء أليثيا (رغم أنها خسرت شريكها مؤخراً بعدما تركها من أجل أخرى تصغرها)، ومع معرفتها التقاليد السردية لمثل هذه الحكايات الخرافية ("كل حكايات الجنّ هي حكاية أخلاقية"، تقول للجنّي الذي يشاركها غرفتها الآن)، تعلم جيداً أنه مقابل كل أمنية ممنوحة هناك فخّ كامن، وأن هذه الحكاية لن تنتهي نهاية سعيدة. لإقناعها، أو بدافع الحاجة إلى الكلام بعد قضاء كل هذا الزمن في زجاجة ملقاة في قاع البحر، يبدأ الجنّي في سرد ​​قصصه، وكيف دخل وخرج من الزجاجة على مرّ القرون. يعرض الفيلم تلك القصص التي تشمل علاقته بملكة سبأ الجميلة وشيوخ وملوك وسحرة آخرين عبروا طريقه أو خدعوه أو تركوه جانباً ليحبسوه في النهاية مرة أخرى. وهكذا، عبر عدة قرون مروية كفصول من حكاية تقليدية للأطفال، يشتغل ميلر بكل أدوات أفلام تيري غيليام، لكن بخفّة وعذوبة أكثر، ومع سحر أعظم تأثيراً.
استناداً إلى قصة قصيرة للكاتبة البريطانية أ.س. بايت تنهل من جميع أنواع المصادر، يحاول ميلر خوض رحلة مهلوسة وسريالية تعيد تقديم القصّ الملتفّ والمتوالد لألف ليلة وليلة. بعبارة أخرى، هذا فيلم عن السحر الأبدي للقصص وطريقة روايتها ومَن يروونها. وهكذا، خلال نهار كامل وجزء من الليل، يتابع مغامرات ومآسي الجنّي، واحدة تلو الأخرى على مرّ قرون، المليئة بالسلاطين والأميرات والعبيد والطامعين في العرش، واللعنات والأشواق، ويقطعه الذاكرة العَرَضية لأليثيا التي ستنتقل من الشكّ والريبة إلى الفضول والتعاطف. هل ستتمكن العالمة العقلانية من تحطيم الدرع وكسر التعويذة في النهاية؟ شيئاً فشيئاً، لدى سماعها قصص الحب والحزن والأسى في غرفة الفندق، تبدأ أليثيا والجنّي في التواصل.
يرتبط فيلم ميلر باتجاهات فنية ساءلت وجهات نظر علمانية بعينها، خاصة منذ بداية الألفية الجديدة. الفكرة السائدة - أقله غربياً - بأن كل ما هو ديني سيختفي ويُدفع جانباً كمرحلة اجتماعية جديدة تبيّن إخفاقها. على مدى العقود الماضية، لم تنجح الاشتقاقات الدينية والتحوّلات والبدائل العديدة وحالات عدم اليقين الغامضة في فرض نفسها كمجالات بحث أكاديمية مختلفة فحسب، بل اتخذت أيضاً مواضعها ضمن ممارسات فنية. في هذا الصدد، يجب بالتأكيد ذكر المخرج التايلندي أبيشاتبونغ ويراستاكول للاستشهاد بأعماله الحلمية والصوفية. كذلك الكندي دوني فيلنوف، الذي قام في آخر أفلامه (من بينها "كثيب" و"الوافد") بمجاورة المُعلمَن والديني. يفتح ميلر هذا المجال من الخطاب منذ البداية. لديه عالمة تفكّر في الأساطير المُرحَّلة والإطار الواثق للعلم العقلاني. هي الآن جالسة في ما يشبه البرزخ مع مخلوق أسطوري، يستمعان إلى بعضهما البعض أثناء ارتداءهما روب الاستحمام. لا ينشغل الفيلم بسؤال الفخّ الكامن ولا النهاية غير السعيدة، إنما يتعلّق، في جوهره، بالمصالحة مع تلك المناطق التي يُعتقد أن العقلانية قد نفتها من الحياة اليومية، ومن هنا يشكّل التواصل بالكلام بينهما المعادل الطبيعي لتواصل البشر مع أسلافهم بالحكايات والحكي.
يعيد الفيلم صياغة منهجيات وأساليب الاستشراق الرائجة في القرون الماضية ويتخطّى بنجاح ما كان يمكن أن يكون تمريناً هزلياً وحتى مبتذلاً، وتحويله إلى قصة وصفية جذابة دائماً، وفي أكثر من مناسبة، بشكل مفاجئ ومؤثر. في الثلث الاخير، عندما تُترك إسطنبول في الخلف وتنفتح لندن على أليثيا الجديدة، يحتضن السيناريو الرومانسية في جانبها الخالد ويفقد القليل من سحره، ولكن ليس كله. ربما تكون أعظم ميزة لفيلم ميلر هذا، الذي يصوّر في موطنه حالياً فيلماً بعنوان ""Furiosa سيكون استكمالاً لعالم "ماد ماكس"، حقيقة أنه لا يخشى السخرية ولا الاتهام بالاستشراق، طالما أنه لا يملك أي نوايا خفية ويبغي الإمتاع والمؤانسة اعتماداً على القوة المذهلة لسرد القصص.
الاستمتاع بالفيلم سيتوقّف على ذوق المشاهد وتذوّقه لقصص السحرة والتعاويذ والعرّافين والملكات بنبرة أقرب إلى الأطفال من الكبار، على الرغم من أن الإطار الذي يدمجها ليس كذلك. ويمتلك ميلر الموهبة والإبداع البصري لنقل شغفه واهتمامه بنوع من الأسطورة يمكن رؤيته وسماعه نسبياً. بعيداً من الاهتمام الشخصي الذي قد يملكه كل متفرج بهذا النوع من القصص، ينجح الفيلم وتبرز فاعليته في طريقته للربط بين الأسطورة والواقع، في إعادة اكتشاف شغف الأساطير قبل وقت طويل من تمكُّن العلم من شرح الأمور بطريقة أكثر برودة وميكانيكية. يراهن ميلر هنا على تلك الرومانسية مع قصص تجعل الواقع أكثر احتمالاً.

(*) يُعرض حالياً في بيروت.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top