في مقالة "شعراء سوريا وشعرية الانقلاب" لابراهيم الجبين والمنوشورة في موقع "تلفزيون سوريا"، وبغض النظر عن مضمون المقالة ومواقف كاتبها، وبغض النظر عن أمارات الشعر وأصلها وفصلها، وعمن هم أصحاب الريادة في العالم العربي، ثمة إشارة إلى دور بارز كان يناط بالشاعر والقصيدة وانتهى، أو تحوّل وتبدل. يقول الجبين: "أن يناقش برلمان في دولة عربية قصيدة لشاعر، قبل أن يفعل الكنيست الإسرائيلي ذلك مع قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر" بعقود، لهو حدثٌ كان وسيظلّ أكبر من أن يتناوله المرء تناولاً عابراً"... بمعنى آخر كانت القصيدة حتى الأمس القريب تهز المجتمع وتربك أركان السلطة والنظام...فيوم نشر قباني(1923 – 1998) قصيدته التي زعزعت بعض نواب البرلمان السوري، كان تأثير بعض القصائد أشبه بمحطة فضائية، الجمهور ينتظر كلمات الشاعر (ليس مجرد شاعر) والتي تصير على كل شفة ولسان، يتناقلها الناس كما لو أنها الشاهد الدامغ على ما يجري، خصوصاً إذا كانت سهلة القراءة والتناول ومكتوبة بحرية. فالنافل أنه في العام 1954، نشر نزار قباني قصيدته "خبز وحشيش وقمر" في مجلة "الآداب" اللبنانية، وكان يومها موظفاً في السفارة السورية في لندن، لكن يبدو أن بعض النواب لم يسمعوا بها إلا بعد أشهر على نشرها. ففي جلسة البرلمان ليوم الثلاثاء 14/6/1955، قام نائب عن الإخوان المسلمين، يشتكي هذه القصيدة، فقال: "ماذا أقول عن وزارة الخارجية تلك الوزارة التي لفتنا نظرها قبل ذلك إلى موضوع هام جداً إلى موضوع قومي بالدرجة الأولى قبل أن يكون موضوعاً دينياً، هذا الموضوع هو تهجم أحد ممثلينا في الخارج (ممثلنا في لندن) هذا الشخص هو رجل يقال له نزار القباني وقد كنت أريد أن لا أتعرض لأشخاص غائبين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، لكنه رجل يمثلنا ويعرض صورة عنا في قصيدة داعرة فاجرة انحلالية إلحادية وفضلاً عن كل هذا تظهر الشعب العربي في أقبح صورة وأبشع تمثيل وأفسد حالة"...في اليوم التالي لجلسة الاستجواب، زار بعض النواب الرئيس خالد العظم في مكتبه بوزارة الخارجية، أثاروا قضية القصيدة مرة أخرى، مطالبين بإحالة نزار قباني على اللجنة التأديبية للوزارة، فاستمهلهم الرئيس العظم قليلاً حتى يقرأ ملفه الوظيفي الذي حمله إليه الأمين العام لوزارة الخارجية، وعندما انتهي الرئيس العظم من قراءة ملفه قال لهم: "يا حضرات النواب الأعزاء أحب أن أصارحكم إن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف ونزار قباني الشاعر، أما نزار قباني الموظف فملفه أمامي وهو ملف جيد ويثبت انه من خيرة موظفي هذه الوزارة، أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شِعره، فإذا كنتم تقولون انه هجاكم بقصيدة فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة وكفى الله المؤمنين شر القتال".
(نزار وبلقيس)ولم تكن المرة الوحيدة ولا الأخيرة التي يثير فيها نزار قباني الجدل والتمرّد والثورة وهو الذي جعل الشعر مثل "الخبر اليومي"، ومثل قراءة الجريدة. ففي في أعقاب هزيمة حزيران 1967، نشر نزار قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" في مجلة "الآداب" أيضاً، ويقول في مطلعها: "أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة والكتب القديمة/ أنعي لكم/ كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات العمر والهجاء والشتيمة/ أنعي لكم/ أنعي لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة". وعلى الرغم من أن مجلة "الآداب" لم تدخل مصر لمصادرتها، لكن القصيدة انتشرت وتوزعت وأثرت في الناس، وعلى أثر ذلك بدأت حملة عنيفة ضد نزار قباني بدأها الشاعر صالح جودت بمقال في مجلة "الكواكب" في 12 سبتمبر/ أيلول 1967 بعنوان "امنعوا أغاني نزار". وكتب جودت مقالاً آخر بعد أسبوع بعنوان "فضيحة نزار قباني"، طالب فيه الإذاعات العربية بمقاطعة أغانيه، والمكتبات العربية بمصادرة دواوينه. صار نزار قباني، كاتب الأحزان والهجاء والغزليات الحميمة، وكأنه المسؤول عن الهزيمة المدوية، وبات عُرضة للمنع والمصادرة من النظام العربي. وباقتراح من الناقد رجاء النقاش، كتب نزار رسالة مرفقة بنسخة من القصيدة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وشرح فيها موقفه من النكسة والأسباب التي دفعته لكتابة القصيدة، وقال في أحد سطور الرسالة "إن قصيدتي كانت محاولة لإعادةِ تقييم أنفسنا كما نحن، بعيدًا من التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي كانت محاولة لبناءِ فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن فكر ما قبل 5 حزيران/يونيو". كان رد عبد الناصر بإلغاء جميع الإجراءات المتخذة بحق الشاعر نزار قباني، والسماح له ولقصيدته بدخول مصر. بالطبع تلك المرحلة وقبلها، شهدت موجات قمع ورقابة، وزجّ عشرات المثقفين والروائيين والشعراء في السجون لمجرد أنهم يختلفون في الرأي مع الناصرية، أو نظام ثورة يوليو.***وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فجّرت المليشيات الموالية لإيران وسوريا السفارة العراقية في بيروت يوم 15 كانون أول 1981، وكان من أبرز ضحايا تلك المجزرة، بلقيس الراوي، زوجة نزار قباني، الذي رثاها بقصيدة، وقد جاء في ثنايا القصيدة ما يشير إلى تورط النظام السوري الأسدي الذي كان في صراع مع البعث العراقي ميدانه لبنان ومناطق اخرى. (في المرحلة نفسها اغتيل نقيب الصحافة رياض طه 1927 – 1980، واغتيل شاعر الزجل موسى شعيب 1943 – 1980 بسبب ولائه لحزب البعث العراقي)..يقول نزار في قصيدة بلقيس:
"سأقول في التحقيق
إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول
وأقول
إن حكاية الإشعاع أسخفُ نكتةٍ قيلت
فنحن قبيلة بين القبائل".يذكر الصحافي حسن النيفي في موقع "تلفزيون سوريا"، أن السلطات السورية حاولت آنذاك أن تحدّ من انتشار قصيدة بلقيس، وأذكر في حينها، أن مجلة "المستقبل" التي كان يرأس تحريرها الروائي نبيل خوري، كانت قد نشرت القصيدة في صفحاتها، فبادرت السلطات السورية إلى منع العدد الخاص الذي نُشرت فيه القصيدة إلى سوريا، وبعض أصحاب المكتبات في مدينة حلب، قاموا بتصوير القصيدة، ثم حوّلوها إلى كرّاسات صغيرة للبيع، نظراً للإقبال الكبير عليها من القراء، فما لبثت – على إثر ذلك – عناصر المخابرات أنْ بادرت بتفتيش العديد من المكتبات ومصادرة أي كرّاس يحتوي على قصيدة "بلقيس"، بل باتت حيازة هذه القصيدة تهمة أمنية في حينها.ولعل الجدير بالذكر هنا، أن قباني الذي قيل إنه نُفي في ظل حكم حافظ الأسد، إلى لندن، كانت علاقته بهذا النظام غريبة وملتبسة أيضاً، قبل اغتيال بلقيس. فقد استقبله الأسد العام 1974 في مكتبه، وكتب نزار: "منذ أيام النبي العربي.. والشام "بتتكلم" عربي، ومنذ أيام معاوية وهشام ومروان حتى أيام حافظ الأسد، ومنذ موقعة بدر، حتى موقعة جبل الشيخ، والشام مواظبة على تكلم اللغة العربية، وعلى تعليمها، إن صناعة دمشق الأساسية هي العروبة".بعد تأزم الوضع في لبنان، بسبب الحرب وهولها، انتقل نزار قباني للعيش في مصر "أم الدنيا" العام 1983 وتعرض لهجوم عنيف هناك من قبل بعض الاعلام المصري على خلفية قصيدة ضد الرئيس أنور السادات انتقده فيها وانتقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام المصري مع اسرائيل. ورغم وجود أصدقاء وقفوا إلى جانبه، مثل الروائي والقاص يوسف ادريس والصحافي محمد حسنين هيكل ووالكاتب أحمد بهاء الدين والموسيقار محمد عبد الوهاب، لم تتوقف الحملة ضده طوال عام كامل وخاصة من قبل أنصار التطبيع مع اسرائيل آنذاك، لا سيما أنيس منصور. وقرر نزار الانتقال إلى سويسرا العام 1984...وفي العام 1985 ألقى قصيدة في مهرجان المربد الخامس في بغداد، وقد أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوسط الأدبية العراقية، وتم التعتيم عليها ومنعت من الصدور في الصحف العراقية وقنوات الإعلام... قيل وقتها أن النظام العراقي الصدامي كان ينتظر قصيدة مدح، لكن نزار تحدث عن الواقع المر والقاسي، قال:
"مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمنوهجا نزار صدّام حسين بعد حرب الخليج قائلاً:مضحكة مبكية معركة الخليجفلا النصال انكسرت على النصالولا الرجال نازلوا الرجالولا رأينا مرة آشور بانيبالفكل ما تبقى لمتحف التاريخاهرام من النعال!!وردّ عليه الشاعر العراقي الموالي لصدام، رعد بندر:
يا قباني.. يا فاتح القناني!!
بل حربنا حرب
سلامنا سلام
لكن ما يناله العملاق
لا تناله الأقزام
تاجر...على هامش كل ما كتبناه، ذكر السيد هاني فحص في مقال له في جريدة "السفير"، أن بعض النضاليين اقترحوا ذات مرة اغتيال نزار قباني، بسبب أن غزلياته كانت تؤثر في طريق الثورة. لا أذكر تفاصيل المقال، لكن هذا جوهره. وعلى هذا كانت قصيدة نزار الأكثر انتشاراً بين الناس، ومطاردة من مختلف الأنظمة العربية. اليوم خفت اسم نزار كثيراً مقارنة بالماضي، بالطبع تحوّل عالم الكلمة وعالم القصيدة، وتبدل مزاج الناس في زمن "السوائل الثقافية" كما يسميها البولندي زيغموند باومان، ولا ندري لو عاد نزار قباني اليوم، ماذا كان سيقول، وماذا سيكتب... وهل ستواجهه الرقابة أم سيتحدث عن خفوت صوت الشاعر لمصلحة وسائط ميديائية آخرى؟! لقد رحل نزار قبل طوفان الانترنت، وقبل أن يصبح كل مواطن مغرداً على ليلاه، بينما بعض الشعراء اليوم يحاكون ذواتهم، ويقلّدون أنفسهم... ربما جعلوا من الشعر لغة متحفية وليس "خبزاً يومياً".(*) الحلقة المقبلة عن بدوي الجبل.