يعيش أهالي الميناء في طرابلس عيد الميلاد على طريقتهم. وإذا أردنا أن نرصد ملامحه الدافئة والحميمة، لا بدّ أن نعبر من شارع "يعقوب اللبان"، الملقب بـ"مينو" تيمنًا بـ"مونو"، شارع السهر في بيروت. يتوسط هذا الشارع المستقيم حارات الميناء العتيقة وأزقتها الضيقة، حيث لا يشبع المارة من سحر بسطاتها. ولوهلة، قد يشعرون أنهم في قرية جبلية لبنانية، ثم ترصد عيونهم الشاطئ، بعد تجاوز تقاطع "برج السمك". ونقول في ليلة ميلادية -نحن الصحبة من أهالي الميناء وزوارها– لا بأس أن نضيف على لقب "مدينة الموج والأفق" لقب آخر: "الضيعة البحرية". ميلاد "مينو" في ليلة العيد وما سبقها من أيام ميلادية، يعيش شارع "مينو" أجواءً استثنائية، استقطبت مئات العائلات بصحبة أطفالها للاستمتاع بأجواء الفرح والبهجة والأجواء الموسيقية وحفلات "بابا نويل" التنكرية و"سوق البلد"، هربًا من مآسي مدينة لا تفارقها المعاناة. يقول طوني أثناء تجوله في "مينو" مع عائلته لـ"المدن": "لا نشعر بالعيد من دون التجول بهذا الشارع، وكأنه هوية أهالي الميناء القديمة. نحاول الاحتفال رغم أزمتنا الاقتصادية، حتى نرى ضحكات أطفالنا الذي يفرحون بأبسط الهدايا ونزهو معهم".
وعلى طول ضفتي الشارع البالغ نحو 170 مترًا، تنتشر زينة العيد على أطراف المقاهي والبارات والحانات، وتتدلى من أبنيته السكنية القديمة، حتى تضيء عتمته. لكن ما يميّز عيد الميلاد هذا العام، أنه يترافق مع مشروع ترميمي في شارع "مينو" إحياءً لزمنه الجميل. يعقوب لبان تاريخيًا، تعود قصة هذا الشارع لأكثر من سبعة عقود. وقبلها، يحكي شيوخ الميناء القديمة، وهم من الغالبية المسيحية من الروم الأرثوذكس، أنه كان يسمى بـ"شارع الخراب"، نظرًا لحالة الخراب وأكوام الحجارة فيه. لكن الدكتور يعقوب لبان (1878 – 1968) الذي يحمل الشارع اسمه تكريمًا له، قدم مساعدة مالية لإعادة ترميمه. وفي كتاب "وجوه بحرية" للأديب والكاتب والأكاديمي جان توما، وهو ابن الميناء أيضًا، يقول عن لبان: "كان طبيب الفقراء، لا يكلفهم بل يتكفل بهم.. عيادة يعقوب لبان إن حكت، لقالت في وفاء أهل الميناء البحري، لمن أحبهم وخدمهم، وكيف رفعوا تمثالًا له في وسط الساحة، وأداروا ظهره للبيوت، وجعلوا قبلة وجهه شاطئ الميناء الحيّ، ليصبح يعقوب لبان بطل حكايات الصيادين، وعمال الميناء البسطاء". لذا، نجد أن كبار أهالي الميناء القديمة يصرون على تسميته الأصلية. ولدى سؤالنا امرأة مسنة عما تعرفه عن شارع "مينو" وهي تسكن بالقرب منه، ترد سريعًا: "مين مينو؟ هيدا شارع الدكتور يعقوب اللبان الله يرحمه". قصة إعمار منذ منتصف أيلول الفائت، بدأت المرحلة الأولية من إعادة ترميم شارع "يعقوب اللبان"، حسب ما يقول المهندس وائل دبس، ابن الميناء وأحد المشرفين المباشرين على المشروع. ويفيد أنه جرى تقسيم الشارع إلى تسعة أجزاء، حتى لا يضطروا لإغلاقه أثناء إعادة الترميم، وهو يحتاج لتمويل بقيمة 150 ألف دولار تتضمن أيضًا وضع ألواح طاقة شمسية لتسخين المياه للسكان.
ويوجد في هذا الشارع 12 محلًا بين مقاه وبارات، وتسكنه نحو 42 عائلة في مبانٍ يتراوح عمرها بين 60 و75 عاماً، إضافة إلى وجود مبنى حجري قديم تشغله مدرسة القديس يوسف للمرحلة الابتدائية. ويقول الدبس أن التمويل يتم جمعه عبر شركاء بالمشروع من أهالي الميناء والقاطنين خارجها، وأن أولويته الحفاظ على نسيجه العمراني الحجري. منوهًا أنها عملية ترميمية متكاملة مع تدعيم شامل، خصوصًا أن الشارع لم يسبق أن خضع لمشروع مماثل.
ويذكر أن أحد أقدم منازل هذا الحي، ويقع في نقطته الأخيرة، يبلغ نحو 140 عامًا، كان مهجورًا ويعود لوقف الروم، فجرى ترميمه وتحديث واجهته بمغارة وتماثيل. ويعتبر دبس أن عمارة هذا الحي متأثرة بالطابع الأوروبي، و"قد اكتملت هويته في أول حقبة الحداثة العمرانية". ما علاقة باسيل؟ منذ أشهر، شاعت الأخبار في الميناء وفي النقاشات السياسية، أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يسعى إلى بناء قاعدة شعبية له في الميناء، وتحديدًا في الأحياء ذات الغالبية المسيحية، وأنه يسعى للاستثمار فيها وبأبنيتها. خصوصًا أن الشروع بعملية إعادة ترميم شارع "يعقوب اللبان" تزامنت مع زيارة باسيل له في أيلول أيضًا.
وهنا، لا ينفي دبس دعم باسيل لمشروع الترميم، من دون أن يكون ممولًا مباشرًا له. وقال: "سبق أن حضرنا عشاءً مع باسيل، وهو لم يطرح تمويل المشروع مباشرة، لأن فكرته قائمة قبل ذلك، تناقشنا حوله، وبدأنا نحشد لتمويله فيما بيننا".
ويشير دبس إلى أن ثمة جمعية تأسست ترعى التفاصيل الكاملة للمشروع، وتسعى مستقبلًا لإعادة إحياء مختلف حارات الميناء القديمة، لكنها تنتظر الحصول على التصريح الرسمي بـ"العلم والخبر" من وزارة الداخلية، وتحمل اسم جمعية "موج وأفق". وقال: "سبق أن عرضت شخصيات سياسية كثيرة أن تمول إعادة ترميم الميناء القديمة، لكن كنا وما زلنا نرفض عروضها، لأن أولويتنا الحفاظ على النسيج العمراني والسكني والتاريخي للمنطقة خارج كل محاولات الترويج والدعاية السياسية".