"لبنان مركز دوليّ لحوار الحضارات والأديان". أبهى ما أعطي للإنسانيّة أن يتّشح وطن الأرز، هذا الذي وصفه البابا القديس يوحنّا بولس الثاني بالرسالة، بهذا الوشاح ويصير مركزًا دوليًّا، في اللحظة التي يحتفل فيها بمئة سنة على نشوء دولة لبنان الكبير.
إنّه نصر مبين حقّقه لبنان على الأصعدة كافّة في محيط مشرقيّ متلاطم، وفي منطقة جُعلت مسرحًا لصدام الحضارات إسقاطًا لمقولة الكاتب الأميركيّ اليهوديّ صموييل هانتنغتون، امتدّ من أوروبا الشرقيّة إلى الشرق الأوسط. ليس غريبًا أن تصوّت أميركا وإسرائيل ضدّ هذا المشروع الثقافيّ والحضاريّ الرائد، الغريب أن يظلّ بعضهم مراهنًا على أميركا حليفة إسرائيل، وأن لا يفهم بأن المجتمع اللبنانيّ الفريد بتنوّعه البهيّ يناقض بجوهره إسرائيل كدولة وكيان قائمين على آحاديّة دينيّة وقوميّة مقيتة، فكلّ مجتمع تعدديّ لبنانيّ ومشرقيّ متجانس وراق نقيض لإسرائيل.
يعيدنا هذا النصر إلى جذور المشروع التاريخيّة. وللأمانة، فإنّ المضمون الذي صار حقيقة وفعلاً، انطلق من قراءة عميقة قام بها المغفور له السفير فؤاد الترك مع مجموعة من السياسيين والمفكّرين الرائدين في هذا الحقل منهم العماد ميشال عون المطران جورج خضر وغسان تويني وفؤاد بطرس رحمهما الله، والرئيس حسين الحسيني، وكاتب هذه السطور، إلى أنتكشفّت الرؤية كاملة بعد استشارات طويلة، فغدت اقتراحًا، كان له فيما بعد أن يقدّمه للرئيس نبيه برّي. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها فؤاد، في ظلّ العهود المتعاقبة والمعاصرة لهذا الاقتراح، لم يظهر أيّ مسؤول اهتمامًا كاملاً بهذا المعطى المتكامل الأطراف المتلاحم الأجزاء سوى العماد ميشال عون، وقد بلغه هذا الاقتراح في باريس إلى أن عاد سنة 2005، فكان اللقاء بين الرجلين أي العماد ميشال عون والسفير فؤاد الترك، فتسلّم هذا الاقتراح، ووضعه نصب عينيه، حتى بلغ سدّة الرئاسة، حينئذ تبنّاه بالكليّة وجعله مشروعًا مقدّمًا إلى الأمم المتحدة تحت عنوان: "لبنان مركز دوليّ لحوار الحضارات والأديان" ليقينه بان هذا المشروع استراتيجيّ بمضمونه الفكريّ والسياسيّ والحضاريّ، وإنقاذي للبنان بجوهره الميثاقيّ، ويضعه، بالتالي، على الخريطة الدوليّة كمركز دوليّ حيّ ومتفاعل لحوار الحضارات والأديان. وها هو المشروع قد انتصر بعد جهود كبرى بذلها لبنان مع الدول الشقيقة والصديقة، وقد تولّدت تلك الجهود بفعل إصرار فخامة الرئيس العماد ميشال عون على تثميره وتجذيره والعمل به، وجعله مدماكًا قويًّا وثابتًا لوطن جديد يتفاعل مع العالم كلّه بدءًا بالتفاعل الإيجابيّ بين شرائحه وأطيافه وأحزابه وطوائفه.
يجيء هذا المشروع متجانسًا ومنسجمًا في أصله مع الذكرى المئويّة لنشوء دولة لبنان الكبير وتكوينها. قبل ذلك كان لبنان بعثرة طائفيّة وأمميّة نمت في كنف الإمبراطورية العثمانيّة ضمن مفهوم الولايات، بعضها كان تابعًا لدمشق وبعضها لعكا، وبعضها الآخر كولاية طرابلس كانت سيدة ومستقلّة وممدودة حتى الساحل السوريّ. لن تتحوّل تلك البعثرة إلى هالة وحدويّة جامعة، بل كانت مدة امتداداتها حالة فتنويّة متعثّرة، انفجرت بقمّتها سنة 1860 إلى أن بلغت إلى دمشق وحوران. كانت نتائج الحروب تصنع التسويات، وكانت القوى المتفعلة للحروب غالبًا ما تصنع التسويات.
مع أفول الإمبراطوريّة العثمانيّة بعيد الحرب العالميّة الأولى، سنة 1916، تحوّلت الرؤية بين الفرنسيين والإنكليز ممثّلين بفرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس، إلى حركة استهلاكيّة واحتوائيّة للمنطقة الممتدّة من شمال إفريقيا إلى المشرق العربيّ. فتمّ رسم خريطة جديدة وفقًا لللاتفاق بين فرنسوا بيكو ومارك سايكس والذي عرف باتفاق سايكس-بيكو. هذه الخريطة انطلقت من تجميع للولايات المتفرّقة وللبعثرات الطائفيّة ضمن منطق الدولة، فكان أن تحولت الولايات بين لبنان وسوريا إلى دولتين، وأعطي الهاشميون الولاية على الأردن، بعد انتقال فيصل من دمشق إلى بغداد. ثمّة ملاحظة لا بد من إعادة التذكير بها، في معرض الإضاءة على معنى التجميع ومبدئه، وهي أنّ ثمّة عرضًا كان قد قدمه الفرنسيون في لحظة رسم الخريطة للبطريرك الياس الحويك مفاده ضمّ منطقة وادي النصارى المحاذية لقضاء عكّار للبنان فما كان منه سوى الرفض، وقد عدّ رفضه خطأً استراتيجيًّا كبيرًا وخطيرًا لدرجة أن قال له جورج كليمنصو: "أيها الموارنة في لبنان: لقد كنتم كبارًا في لبنان الصغير وستصبحون صغارًا في لبنان الكبير. Vous les maronites au Liban vous étiez grand dans le petit Liban et vous serez petit dans le grand Liban.
بهذا المعنى، أدرج عدد من الباحثين بعض الملاحظات يمكن استخلاصها على النحو التالي:
1-لبنان القديم هو إياه لبنان الحاضر، على الرم من بعض التمايزات الظاهرة في ما بين الماضي والحاضر.
2-لم تستطع الطوائف يومًا في تاريخ لبنان القديم والمعاصر أن تكتب لوجودها نظامًا يخرج من الإرث المشترك الجامع ما بين المسيحيّة والإسلام، بل كان النظام يكتبه الآخرون بتوافقهم هم.
3-لبنان الصغير انطلق من جوف البعثرة الطائفيّة بصناعة أمميّة أيّ دوليّة وإقليميّة، ولبنان الكبير صنعه الفرنسيون حاولوا فيه الدمج قدر الإمكان بين الطوائف، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الدمج إيجاد حلّ بين مفهومين تصادما، مفهوم ظلّ يرى لبنان جزءًا من سوريا، ومفهوم آخر رأى لبنان جزءًا من الامتداد الغربيّ، حتّى إن جورج نقّاش الفرنسيّ الهوى قال: "نفيان لا يؤلفان أمّة واحدة" Deux négations ne font pas une nation فيما ميشال شيحا قاوم هذا المعطى بنحت ما سمي بالديمقراطيّة التوافقيّة التي قام عليها دستور سنة 1926، ولعلّه قصد القول بالديمقراطيّة التشاركيّة، وهي المألفة الأمثل. ذلك أن الديمقراطيّة تصنع التوافق لكونه نتيجة تعاقد حرّ نال موافقة الأكثريّة، ولكنها ليست توافقيّة، أني أنها لا تحوي في مضمونها تلك الصفة التوافقية لكونها بنيت على الأكثريّة. فانطلقت ديمقراطية ميشال شيحا لتؤسّس فيما للفلسفة الميثاقيّة التي كان من أركانها بشارة الخوري ورياض الصلح.
وعلى الرغم من البهاء الظاهر والكثيف في معنى الفلسفة الميثاقيّة المعبّرة عن عمق الشراكة بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، وقد غدت جوهر لبنان الكبير. فإنّ هذا البلد لم يؤسّس لنظام سياسيّ صلب يغتذي من تراثه الذاتيّ. والسبب الأساسيّ أنّ اللبنانيين كانوا دومًا مأخوذين إلى الغير بانفلاشهم في الداخل اللبنانيّ. الغير هو المفجّرللحروب، وهو عينه المؤسس للتسويات، وهو نفسه الذي يضع معايير النظام السياسيّ والطرائق المسلوكة وغير المسلوكة.
لقد كان لبنان الكبير مسرحًا لانفجار فلسطين في داخله، وتعميم الخلافات العربيّة-العربيّة على أرضه وقد عرفت بصراع المحاور في الخمسينات، وعادت واستلبت لبنان في حقبة السبعينيات من القرن لتطلّ من جديد في لحظة انبثاث الربيع العربيّ وقد أمسى عاصفة سوداء تفشّت من شمال إفريقيا إلى المشرق، كانت الأحداث في سوريا منذ سنة 2011 قمّتها. وفي جانب آخر من الصراع، استهلك لبنان الكبير أرضًا للتسويات ضمن توافقات كانت تنعكس على وفاق اللبنانيين وهدوئهم، كما كانت الصراعات تستدرجهم إلى معموديّة الدم. كلّ الصراعات في الخمسينيات والسبعينيّات والثمانينات من القرن الماضي أطاحت بالكليّة بحقيقة لبنان وجوهره، الذي تأسس عليه، بتفشيها ضمن صراع الطوائف إلى أن غدت الطائفة الواحدة والمذهب الواحد مسرحًا لصراع بنيويّ. وفي هذا الواقع لم يستطع اتفاق الطائف كنصّ مكتوب وعقد مبرم بين نواب الأمّة اللبنانيّة في مدينة الطائف السعوديّة من إعادة إحياء التوازن وبثّ الروح إلى الفلسفة الميثاقيّة. ذلك أن اتفاق الطائف الطائف لم يكن محصورًا بين نواب الأمة اللبنانيّة، بل تعبير فصيح عن تسوية أميركيّة سعوديّة سوريّة أدّت إلى تلك الولادة وجعلت لبنان أسير وصايتين وليس وصاية واحدة كما طاب لبعضهم أن يصرّحوا. الطامة الخطيرة التي صاحبتنا طيلة تلك الحقبات أننا لم نصنع نظامًا من عندياتنا، من دماغنا، من كلمتنا. لقد أدمنّا على أن يكون لبنان صغيرًا أو كبيرًا جزءًا من منظومة كبرى تتمدّد حينًا أو تتقلّص حينًا آخر، والإدمان بهذا المعنى خطيئة عظمى.
رسالتان لم نتلقفهما في تاريخنا، أظهرتا جوهر لبنان الكبير، واحدة قالها حبر عظيم قديس، هو البابا يوحنا بولس الثاني: "لبنان أكبر من وطن، لبنان رسالة"، وثانية قالها المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع: "لبنان معراجنا إلى السماء". خطيئة اللبنانيين أنهم لم يستدركوا ولم يغوصوا في هذه المعاني السامية ليتحوّلوا إليها وهي الطاردة للنقائص والمولّفة للنقائض. من المؤسف أن تكون التعدديّة، أو يصير التنوّع مصدرًا لديمومة الانقسامات في بنيتنا. هذه الفكرة التي تحرّكت في عقل فؤاد الترك أصرّت على أن يكون لبنان رسالة بعيش التنوّع بقبول الواحد للآخر من بعدد فهم يسير له بعيدًا عن المصالح الضيّقة، "فيعيش المسيحيّ مسيحيّته ويعيش المسلم إسلامه ونلتقي معًا في فضاء الله الواحد وعلى أرض الوطن الواحد".
الطامة أن الطوائف لم تثب إلى نقد طائفيّ يجنّبها الانجرار في مقولة صدام الحضارات. لقد انجرّت وانجرفت كثيرًا وعميقًا حتى دخلنا نحو صراع مذهبيّ مزّق العالم العربيّ وأدخله صراعًا قوميًّا ما بين العرب والفرس، فتهودت القدس ونحن في تمزّق عميم. عظمة ميشال عون انطلقت من تدرج عموديّ، انطلق منزرع الفلسفة الميثاقيّة وإعادة المحتوى بنضج إليها، أرسى ورقة تفاهم تحوّلت إلى تحالف استراتيجي مع حزب الله، أعاد المسيحيين إلى جذورهم المشرقيّة مع زيارته لسوريا قبل الرئاسة والعراق بعد الرئاسة، عمد على إيجاد قواعد تفاهم مع معظم الطوائف اللبنانيّة وأعاد الاعتبار إلى مضمون أن يكون لبنان مركزًا دوليًّا لحوار الحضارات والأديان بالتسويق الحثيث في المراكز الدوليّة وفي أروقة الأمم المتحدة إلى أن تمّ طرحه فانتصر لبنان وانتصر عهد الرئيس عون وانتصر فؤاد الترك بعبقريّته الفذّة.
من المؤكّد، بأنّ هذا النصر كان عظيمًا ونحن نحتفل بمئة سنة على نشوء دولة لبنان الكبير. ومن المؤكّد بأن فخامة الرئيس العماد ميشال عون الأبيّ والرائي والراني والجبل الأقوى من الأزمات والمحن سيجاهد الجهاد الحسن ليعيد إلى الميثاق مضمونه الراقي وقد بدأ بذلك قبل الرئاسة وهو يكمله في الزمان الحاضر بإصرار على جعل التنوّع مدى للوحدة، فيتجسّد الميثاق على أرض الواقع، بتثمير التنوّع اللبنانيّ، وتوضيبه ضمن مبدأ الديمقراطية التشاركية، أو ضمن شركويّة حيّة ومتحركة لا تستثني أحدًا، بل تبني وطنًا جديدًا يتفاعل مع محيطه بكبر وإباء وسلام.
لبنان الكبير بدأ سنة 1920 على يد الفرنسيين ضمن الجغرافيا التي رسمت في الشرق الأوسط ما بين الفرنسيين والإنكليز، كما كان لبنان الصغير وليد التوافق الدوليّ، ونمونا وتربينا على أن كلّ توافق داخليّ صنعه الآخرون. لكنّ تصويت الأمم المتحدة على أن يكون لبنان مركزًا دوليًّا لحوار الحضارات والأديان، أكّد على قدرة لبنان بان يدفع العالم إليه وليس أن يكون مدفوعًا نحو العالم. تلك هي فلسفة ميشال عون بهذا المشروع، وهي أن يكون لنا وطن أنموذجيّ يقتد به في محيطه، تتحاور الأديان على أرضه فتتفاعل فتنتج عالمًا جديدًا ملتحفًا بالخير والبركة. لقد أكد تصويت الأمم على هذا المشروع بأنّ أكبر من وطن إنه رسالة لبنانيّة ومشرقيّة للإنسانية جمعاء من أجل عالم جديد، وهو يبقى معراجنا إلى السماء ومتشحًا بالضياء.