بقلم جورج عبيد -
سيحظى سعد رفيق الحريري بتكليف سيبدو، وبحدود واضحة، مهيض الجناح. لكنّه لن يهنأ بتأليف سعى إليه من باب سواه، هو الفائل لن أترأس أيّة حكومة في عهد الرئيس العماد ميشال عون، فكيف غيّر رايه، ومن اذي أوحى إليه بهذا التغيير الجذريّ، من الرفض المطلق إلى القبول المطلق، شرط أن لا يكون جبران باسيل شريكًا معه في الحكومة التي يرنو إلى تأليفها.
ما سعى ويسعى إليه سعد تهميش الحضور المسيحيّ بالكامل، في نظام طائفيّ، تعاقدنا جميعنا على أن تتمثّل الوجدانات الطائفيّة على ما يحوز أكثريتها المطلقة.
كان دولة الرئيس إيلي الفرزلي نائب رئيس المجلس النيابيّ يصرّ بوجوب تمثيل الطوائف بمن حاز الأكثريّة. لم يكن منطلقه تسوويًّا بل ميثاقيًّا. سرنا في جوهرها واستكنّا في جوفها على أن تؤلّف وجهًا جديدًا للبنان كثيف البهاء، مضمونًا بالصلاح، وخاليًا من فساد. زكّى دولته مبدأ الميثاقيّة بشرط أساسيّ ووجوديّ، وهو تحرير المسيحيين من استيلادهم أو مولوديّتهم في كنف الطوائف الأخرى، حتى نخرج معًا وبمعيّة واحدة من الطائفيّة الفوضويّة المتلاشية إلى طائفيّة متوازنة، ليس في تقابلها وشراكتها اختلال.
استطعنا بحدود واسعة تحرير المسيحيين من مبدأ الاستيلاد. ثم تعاقدنا على النضال في سبيل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة كممثّل للوجدان المسيحيّ بأكثريّته المطلقة، وكزعيم مشرقيّ كبير. ومن الزاوية المتوازنة أسّسنا لتسوية أعادت سعدًا إلى رئاسة الحكومة، كممثّل للوجدان السنيّ بأكثريته المطلقة، وهذا ما يردده الصديق إيلي الفرزليّ. يسوقنا هذا المبدأ إلى توضيح ما لم يره دولته في أدبياته الحديثة، أن سعد الحريري الذي يناصره ويراه خشبة خلاص للبنان، ينأى بمكوّن كبير خارجًا وهو المكوّن المسيحيّ ويعيدنا إلى مفاعيل ما حدث في شهر ايار من سنة 2005. في المعطى الطائفيّ، نحن في مواجهة يسيرة وممدودة بين تحالف ثلاثيّ مؤلّف من تيار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدميّ الاشتراكيّ، وهو تحالف السنيّة والشيعيّة والدرزيّة السياسيّة بوجه الوجدان المسيحيّ بأكثريته المطلقة، أي نحن أمام هتك وفتك للميثاق أو لحالة الميثاقية، ويحاولون تدوين مألفة استيلاد المسيحيين في كنفهم. فرضيّة تمثيل الرئيس الحريري للوجدان السنيّ بهذا السياق عينًا، من دون التواصل مع من يمثّل الوجدان المسيحيّ يبيح إعادة إنتاج الطائفيّة السياسيّة المتلاشية والفوضويّة. لقد سها عن فكر الرئيس الفرزليّ هذا المعطى.
الخطأ الثابت كمن في ظنّ خاطئ بأنّ الرئيس الحريري قد تحرّر من نتانة التاريخ وفساد اتفاق أفرغ الدولة من مضمونها الاقتصاديّ وهويتها الماليّة، ضمن مبدأ خطير خطّه أبوه برفاهة ورهافة، وهو الاقتصاد الريعيّ. أغلق ابوه الأبواب على كلّ إنتاج وإبداع، أصحاب المصانع والمعامل وعدد من الشركات أغلقوا أبوابهم واتكلوا على لعبة الفوائد، ظنّوها بلوريّة وفردوسية الوجه، ابتدعوها ثقافة عيش وأظهروها عنوان رفاه... لم يقرأوا أن خلفها قاتل اقتصادي مزروع بالوباء ومحتجب بالعمالة، كلّ هدفه إفراغ لبنان من معنى وجوده، بدءًا من تعزيز الفوائد العالية، بلوغًا إلى بيع الدولة ممتلكاتها.
من رفيق إلى سعد في معظم الحكومات التي ترأساها، ما الذي تغيّر لكي تقرّ ونستقرّ، ويزداد فرحنا بتكليفه من جديد رئيسًا لحكومة يريدها إصلاحيّة برئاسته كسياسيّ ورئيس حزب؟ لماذا الدول المعنيّة بالملفّ اللبنانيّ، تضغط للإتيان به؟ هل هذا الرجل يمثل الرؤية اللبنانيّة بانشدادها الفعليّ نحو الإصلاح، أو أنّه يمثّل الرؤية الأخروية التي تريده دمية تتلاعب بها بخيوط منها ما هو مرئيّ ومنها ما هو غير مرئيّ، ليتأمّن لها وبلا اعتراض إن كان ضروريًّا الانغماس في الصفقات والتسويات والاستثمارات على أرض لبنان من دون إبداء اعتراضات جوهريّة؟
يفرض علينا الواقع الإقرار بأنّ عنوان التكليف، الذي سيشرب فخامة الرئيس كأسه المرّة، "ديمومة الفساد"، وليس بدء ورشة الإصلاح، ضمن ما طرحه الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، في ورقته الإصلاحيّة. في الوقائع التي أظهرناها غير مرّة، مال الفرنسيون إلى الموضوعيّة المتوازنة أكثر من الرؤية الأميركيّة المتطرفة الرافضة لموجوديّة الحزب في الحكومة.
في المعطى الحاليّ، الفرنسيون يريدون ويطلبون حكومة مَهمَّة Gouvernement de mission ولكنّهم لم يحيوا توصيفًا محدّدًا لتلك الحكومة، ذلك أن إيمانويل ماكرون عاين عن كثب التركيبة اللبنانيّة القائمة على التجميع السياسيّ-الطائفيّ، وفهم كخلاصة منغرسة في طبيعة الأزمة اللبنانية استحالة الفصل بين المهنيّ والتقنيّ والسياسيّ. لقد تبيّن له بأنّ حكومة الدكتور حسان دياب سياسيّة ولم تكن تكنوقراطيّة بالمطلق على الرغم من أنّ الدكتور دياب آت من عالم الأكاديميا من الجامعة الأميركية في بيروت. ما يبديه الرئيس الحريري بالإزاء مع الرئيس ماكرون مختلف بالكليّة، مع الواقع السياسيّ الذي يفترض الاعتدال في الانتقاء والتأليف. والسؤال المطروح كيف يمكن لسياسيّ أن يترأس حكومة اختصاص؟
تظهر بعض الوقائع، بأن الرئيس سعد الحريري انطلق من كنف العرّاب الكبير الرئيس نبيه برّي بمثلبة أعدت للرئيس ميشال عون ولحزب الله على وجه التحديد. من هنا تشير بعض المعلومات بأنّ حزب الله أخفى وجعه من المثلبة المشتركة بين بري والحريري، وسينحو باتجاه التحرّر منها وينجو بالتالي من عبئها وثقلها. وإذا ساغ الاستطراد هنا، فإنّ الحزب ذائق وبسرور لإخلاص الرئيس والتيار الوطنيّ الحرّ له، وسيدرك التيار بدوره كم أنّ الحزب وفيٌّ بدوره لرئيس تحمّل كلّ هذا العبء بسبب من الوفاء، والحرب التي شنّت على الرئيس تعود إلى التزامه قدسية النضال من على أعلى منبر دوليّ في العالم وهو الأمم المتحدة.
ستكون الاستشارات الرئاسية الملزمة حدًّا فاصلاً بين التحرّر من الفساد والفاسدين أو الرضوخ لضغوطاتهم ولنير الفساد. المأساة أنهم يضغطون من سعر صرف الدولار ومن القطاعات الاقتصادية ومن الاستشفائيّة والطبيّة والغذائيّة والنفطية، يضغطون بابتزاز كبير وخطير ليأخذوا البلد نحو انفجار اجتماعيّ خطير. بوجه رئيس قرّر من الآن فصاعدًا المواجهة.
"قلت كلمتي ولن أمشي". إنها الكلمة الأبلغ في خطاب الرئيس. في السابق قال: يستطيع العالم أن يسحقني ولكنّه لا يستطيع ان ينال توقيعي". وفي فحوى هذا الكلام سمتع يقول: "لا يستطيع العالم أن يسحقني ولا أن ينال توقيعي". إنّها المعادلة التي سيسمعها سعد الحريري ويسمعها كثيرون. خطاب الرئيس مدخل كبير للبدء بمعركة التحرّر والإصلاح. ليس بكلامه ممدودًا برهانات وانتظارات. بل منطلق من مصلحة لبنانية جامعة تصرّ على الخلفيّة الميثاقيّة الضامنة لموجوديّة لبنان وبقائه، وتنطلق منها لتوطيد دولة المواطنة الكاملة، كما جاء في المادة 95 من الدستور. وتصرّ على ولادة دولة بريئة من الفساد والعيوب، يقينه بأنّ هذا لم ولن يتمّ إلاّ من خلال ثورة قضائيّة تعيد للقضاء مركزيّته وسيادته على تنفيذ القوانين.
سيكلّف سعد الحريري ولكن بنسبة قليلة من الأصوات. المفاجأة بأنّ الثنائيّة المسيحيّة-الشيعيّة ستسعيد متانتها ومكانتها من خلال ديمومة تجسيد ورقة التفاهم، ليس بوجه الطائفة السنيّة الكريمة، بل بوجه فساد تشرّش واقتات أربابه على حساب الدم والعرق والتعب، وعلى حساب فقر الناس ووجعهم، وعلى حساب نضال تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيليّ، وسيدرك العالم بأن تلاقي المسيحيّة المشرقيّة بإسلام قرآنيّ يؤمّن ولادة وطني ومشرق جديدين.
من هذه الزاوية الرئيس إلى المواجهة... معركة التحرر صعبة، وسننالها مع رئيس علّق عهده على مجد لبنان. ليخرج كما في مسرحية بترا مكلّلاً بإكليل النصر من أجل مجد لبنان.